jeudi 17 août 2017

الأمس البعيد

الأمس البعيد

قصة قصيرة مقتبسة من طفولتي
أيام كنت أرافق أبي إلى عمله
خلال عطلة الشتاء أو الربيع أو الصيف
كانت هذه حال كل الأطفال
فبدعة الإصطياف أو الإشتتاء لم تظهر بعد
وكانت تربية الأطفال ترتكز على دعامتين
التعليم فى المدرسة
والتكوين بالنسبة للطفل فى حقل أبيه 
أو معمله أو متجره
وبالنسبة للبنت تساعد أمها فى شئون البيت
إنه الأمس البعيد,,, البعيد جدا
رغم مرور قرابة ستين سنة
فاليوم لا يخطر على بال الأب
أن يدمج ابنه فى عمله 
أو تشجع الأم ابنتها على مساعدتها
إلا النادر والنادر لا حكم له
بل نلاحظ أن الآباء يحتجون على المدرسة
كونها ترهق كاهل التلاميذ بالفروض؟؟؟
 عندما استيقظت قبل الفجربلحظات قلائل
لم تكن الطيور قد غادرت أوكارها وأعشاشها بعد
ولم تكن النجوم قد أعدت حقائبها للرحيل
خرجت من البيت والأهل نيام
وخرجت من الحي والبيوت فى سبات عميق
إلا من بعض القطط التى كانت تبحث عن آخر صيد
من الفئران التى تغامر بالخروج 
لعلها هى الأخرى تعثر على قوت آخر الليل
مررت بإدريس البيات وهو مستلق على ظهره
وشخيره المرتفع دليل على عمق رقاده
ابتعدت عن الحى متجها إلى بوابة دكالة
حيث انتقلت إلى خارج المدينة العتيقة
التقيت بقافلة من الباعة الذين يأتون من الضواحى
ومعهم حميرهم محملة بالخضر 
من طماطم وجزر وقثاء وبطاطس وفلفل وغيرها
قصد بيعها فى أسواق الخضر التى تقع على أسوار المدينة
اقتربت من المسجد الأهلي لسيدى أبى النور بضاحية المدينة
لأن أذان الفجر وشيك وقفت بباب المسجد
إذ فعلا شرع المؤذن فى النداء أن حي على الصلاة
وقفت بجانبي جماعة من المصلين من بينهم ابراهيم النجار
الذى يعمل خارج المدينة فى معمل للنجارة بالقرب من محطة القطار
دخلنا المسجد قمت بتحية المسجد وصليت ركعتي الفجر
ثم جلست أردد بعض الأدعية ثم صلينا الصبح
وراء الإمام الفقيه صالح المنتدب للإمامة فى المسجد
غادرت المسجد نحو الورش الذى يعمل فيه أبي رئيسا
بدأت الطيور تغادر أوكارها
وبدأت النجوم تجمع حقائبها الواحدة تلو الأخرى
وبدأت بشائر الشمس تظهر على أديم السماء
الفصل فصل شتاء إلا أن السماء لم تكن غائمة
ولا شئ يشير أن المطر قادم من جهة الغرب
إلا أن الطقس بارد وشعرت بالبرودة أكثر
لأنني ما زلت صفر البطن منذ المساء البارحة
دخلت الورش وسألت عن المعلم أين هو
والمعلم هو اللقب الذى يعرف به أبي فى الورش
وحتى فى أغلب فضاءات المدينة
دخلت المكتب الصغير المصنوع من ألواح خشبية
وسقفه من صفائح معدنية للوقاية من المطر
رأيت المعلم متكئا على طاولة الرسم
وعلى سطحها تصاميم تتعلق بأشغال الورش
رأيته وفى يده قلم رصاص وعلى عينيه نظارتان لتحسين الإبصار
على الطاولة كذلك رزمة من التصاميم ودفتر متوسط الحجم
يدون فيه المعلم المعلومات التى تساعده على إدارة وتدبير الورش
بجانب المعلم مساعدان
كل واحد منهما يحمل على عاتقه مسؤولية قسم من أقسام الورش
وقفت على بعد مترتقريبا من الجانب الأيسر للطاولة
وعلى زاوية تسمح لى أن يلحظني المعلم
لا يجوز لى أن أتكلم والمعلم يعطى الشروحات للمساعدين
ولكن شعرت بأن المعلم قد لمحني
وعرف أني وصلت إلى الورش قبل انطلاق الأشغال
لو وصلت بعد بداية الأشغال لكانت الصاعقة تنزل بأم رأسي
لأن المعلم لا يقبل أن يأتى مستخدم ولو بدقيقة بعد الإنطلاقة
وهو الذى يصل دائما إلى العمل قبل أى كان
التفت إلي المعلم مبتسما وأشار إلي أن أرافقه خارج المكتب
كان على يمينه المعلم عباس المسؤول عن أشغال الخرسنة
وعلى شماله المعلم حسن المسؤول عن أشغال الصلب والحديد
أشار إلى حارس الورش أن يدق ناقوس إنطلاقة الأشغال
كان العمال واقفين على شكل صفوف متراصة
كل صف يرأسه ضابط صف
مجموعة الحفر وإعداد الأسس
مجموعة معالجة الحديد وصناعة الهياكل
مجموعة معالجة الخشب وصناعة الصناديق
مجموعة معالجة الخرسنة
مجموعة الأدوات والآلات
مجموعة الصيانة وتفريغ الورش من الزوائد والأتربة
كان المعلم يمشى ويتفحص كل مجموعة على حدة
وكان هذا ديدنه كل صباح قبل الشروع فى العمل
إذ كان يقول: إتقان الأشغال تبدأ بضبط الإنطلاقة
كان يخرج من الصف كل عامل يبدو عليه أثر التعب أو المرض
لأنه يعتبر أن عاملا غير قادرعلى القيام بمهمته 
يؤثر سلبا على سير الأشغال
بعد عملية مراقبة لياقة العمال 
أعطى المعلم أمره لإنطلاقة العمل الفعلي
تابع دورته داخل الورش 
حيث أعطى تعليماته الخاصة 
بكل قسم من أقسام الورش
وكان يقول للمعني بالإنجاز: 
هل فهمت؟ أليس هناك من سؤال؟
وخلال دورته كان ينظر إلي بعين المراقب المتتبع ويسألني:
 المدرسة شئ جميل
لها فوائدها فالعلم نور 
إنما العلم علمان 
علم نظري وهو ما تحصل عليه فى المدرسة
وعلم عملي وهو ما تحصل عليه فى المعامل والأوراش
ولا قيمة للعلم النظري فى غياب العلم العملي
واسترسل فى التو لتطبيق هذه القاعدة 
وأوعز إلي أن آخذ مطرقة وأقوم بمعالجة حجر 
وأضعه على جذار كان حيز الإنجاز
أنجزت الأمر إذ عالجت الحجر 
ووضعته فى الموضع المناسب
ولم تكن هذه أول مرة أقوم بهذه العملية
بل عودت نفسي أن أكون دائما على أعلى استعداد 
لتلقى التعليمات من المعلم
إبتسم المعلم إشارة أنه مطمئن للتدريب 
الذى أتابعه تحت عينه
وكانت تبدو على وجه المعلمين عباس وحسن 
علامة الإرتياح أن ابن المعلم 
ماش على خطى أبيه بتدرج مناسب
كنت دائما أقترب من المساعدين لأستفيد منهما قدر الإمكان 
سيما إذا كان المعلم خارج الورش لسبب من الأسباب
أطلت شمس الضحى من بين غيمتين كانت تتحرك نحو الأطلس
دق ناقوس التوقف عن العمل لتناول وجبة الإفطار
جلس المعلم على لوحة خشبية موضوعة على حجرين كبيرين
وأمام هذه اللوحة مائدة مركبة من أجزاء يسهل فصلها بسرعة
على المائدة أكواب زجاجية وإبريق معدني يتصاعد منه
بخار الشاى بالنعناع
وبجانب الإناء رغائف من الخبز وصحن من السمن
وصحن آخرمن الزيتون
تناولنا طعام الإفطار
ثم غسلنا أيدينا بالماء والصابون
ثم التحقنا بالعمل ثانية وبقينا ننتقل من مكان إلى آخر
داخل الورش حتى الساعة الواحدة بعد الزوال تقريبا
أوشك وقت صلاة الظهر
أمر المعلم بوقف الأشغال لأداء الصلاة
أذن أحد العمال وكان صوته رخما مؤثرا
ثم أم المعلم بنا الصلاة
وبعد أدائها توجهنا إلى مائدة الطعام 
حيث تناولنا ما كتب لنا الله من طعام وشراب
كان المعلم يقيل بعد تناول طعام الغذاء
استلقى على صف من أكياس الإسمنت ثم أسلم نفسه للنوم
دامت القيلولة بضع دقائق ثم استيقظ وغسل وجهه ويديه 
ثم التحق بمكتبه
رافقت أنا المعلم عباس ولم أفارقه حتى صلاة العصر
صلينا العصر جماعة تحت إمامة المعلم حسن
ثم رافقت المعلم حسن فى جولته حتى المساء
دق ناقوس نهاية الأشغال 
وقام العمال بوضع أدوات العمل فى مكانها المناسب
وقامت فرقة الصيانة بتنظيف الورش
ثم بدأت عملية غسل الوجوه والأطراف 
لأن المعلم كان يمنع أن يغادر عامل من العمال
الورش وعليه أثر الغبار
غادر العمال الورش وبقى المعلم مع مساعديه 
حيث قدم لهما برنامج الغد
ثم ركب دراجته النارية وأشار إلي أن أركب معه
غادرنا الورش وفي طريقنا إلى البيت دخلنا مسجد البوابة 
حيث أدينا صلاة المغرب
ثم التحقنا بالبيت حيث ينتظرنا الأهل
سلمت على أمى وعمتى وخالتى
تناولنا طعام العشاء وهو عبارة عن الأرز بشئ من اللبن الساخن
خرجت مع أبى إلى مسجد الحى لأداء صلاة العشاء
ثم بعدها رجعنا إلى البيت للنوم
إذ أن الغد ينتظرنا لإنجاز وصلة الأخرى من العمل فى الورش
هذا اليوم هو نموذج من أيام العطلة الشتوية التى كنت أقضيها برفقة أبي
فى عمله ولقد أثرت هذه التجربة فى مساري المهني والإجتماعي
إنه الأمس البعيد من حيث دقات الزمان
لكنه القريب من حيث دقات الوجدان
حامد البشير
يوليوز 2009
  

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire