lundi 14 août 2017

التسخير والتخيير

التسخير والتخيير

سألني حفيدي البشير ذات يوم: 
" بابا حامد, هل اخترت الهندسة عن قناعة 
أم كنت مضطرا؟
وأضاف مسترسلا: 
" أراك كثير الإطلاع بالمجال الأدبي, 
وأن اللسان العربي يطاوعك
 فهل هي ملكة جبلت عليها, 
أم تأثير من أحد أساتذتك 
أم كانت اللغة العربية من مقررات دراستك 
وتكوينك المهني؟
فأجبته بكامل العفوية بما يلي تقريبا:

" أبي لم يدخل يوما ما إلى كتاب أو مدرسة, 
لظروفه الإجتماعية 
حيث رأى النور وهو يتيم من الأب, 
واضطر في بداية صباه أن يساعد أمه على أعباء الحياة, 
فدخل سوق العمل ولم يتجاوز عمره السادسة
 وتنقل من عمل إلى آخر, 
ومن مهنة إلى أخرى, 
حتى استقر في آخر المطاف في مهنة العمارة التقليدية أولا
 ثم العمارة العصرية ثانيا, 
الأمر الذى أكسبه سعة الأفق 
في التصميم والإنجاز فيما بعد.
هذه المقدمة, يا ابني, ضرورية

 قبل الإجابة على سؤالك
عندما تزوج أبي,

 لم يكتب لأبناءه الثلاث 
الذين ولدوا قبلي 
أن يبقواعلى قيد الحياة
 وشاء الله سبحانه وتعالى 
أن أصمد أنا أثناء عقبة الولادة والرضاعة
كان أبي يحمل في أعماقه حلما 

وهو أن يحقق في شخصي كل ما حرم منه في صباه
 وخاصة أن أحصل على مستوى عال 
في العلوم والثقافة والمعرفة
ولابد أن أشير هنا إلى أن أبي 

كان شديد الجلوس في حلقات الذكر 
والدروس التبسيطية
 التى كانت تعطى من لدن عدد من العلماء والفقهاء داخل المساجد,
 وكانوا رحمهم الله يعملون على تصحيح العقيدة الإسلامية
 من الشطحات الصوفية, والخرافات الطرقية, والإسرائيليات
وكان أبي يلازم بعضا من هؤلاء الدعاة,

 ويستمع إليهم وينصت إلى نصائحهم
 وكان يتخذ من صفوتهم أصدقاء له 
يدعوهم إلى بيته, 
ويقدم لهم الطعام والشراب,
 بل وفي بعض الحالات, يتقدم بكسوة فقرائهم
 ويساهم في التخفيف من أعبائهم المادية
وهنا بيت القصيد,

 إذ كان يحرص أثناء استضافتهم 
أن أكون أنا خادمهم,
فأفدم لهم الطست لغسل اليدين

 والمنديل للتجفيف
كما كنت أساعده على حمل الصفرة الخشبية 

وأوانى الأطعمة والأشربة
وكان وقتها يحرص على حضوري معهم 

بعد وجبة العشاء
وكان يغتنم الفرصة تلو الأخرى

 ليجعلني تحت استجواب فقيه ما
 فأجد نفسي مضطرا للإجابة على أسئلتهم
 في اللغة والآداب 
والأخلاق والعقيدة والعبادات
وكان أبي أثناءها لايفارقني ببصره

 وكأنه هو الذى كان يمتحنني
وكان يسألني عندما نخلو ببعضنا البعض, 

في البيت أو خارجه 
عما حفظته من الفقيه فلان أو العالم علان
لم يكن أبي يقرأ ولايكتب 

ولكن كانت له ثقافة شعبية عميقة وأصيلة
 وكان يعمل على مراجعتها باستمرار
 وكان له حدس قوى
 يساعده على مسايرة حوار العلماء بيسر فائق
فهذه البيئة الخاصة, يا ابني, 

هى التى ساعدتني على الإرتباط باللغة العربية وعلومها 
منذ طفولتي
 قبل أن ألتقى باللغات الأجنبية 
الفرنسية والأنجليزية والألمانية 
والثقافات المتعلقة بها
وعندما وصلت إلى مفترق الطرق 

لكى أختار تكوينا متخصصا 
كان بإمكاني أن أختار ما أريد 
من بين طيف واسع من التخصصات,
وكان أبي يتحرز لكى لا يجبرني

 على أي تخصص يميل إليه
 لكنني شعرت وقتها بأن من واجبي أن أسير
 في المسار الذى يحلم به هو,
 فاخترت الهندسة المدنية 
وقلت له أني اخترت أن أصبح بعون الله مهندسا 
فقال لي: لعلك تريد إرضائي
 فأجبته أنني بالفعل قادر أن أجمع بين الحسنيين 
إرضاء أبي وإرضاء نفسي 
وكان كذلك بفضل الله حيث جمعت بين العلوم والآداب 
ولست فريد عصري البتة, يا ابني,
 بل هناك ابراهيم ناجي الطبيب, 
و طه المهندس, والصيرفي,
 وغيرهم كثر 
 فالمسألة فيها تسخير وتخيير معا
والله الموفق لما يشاء ويرضى

حامد البشير المكي
2012





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire