dimanche 20 août 2017

المطرقة والمسمار

المطرقة والمسمار
  
ذات يوم من أيام فصل الشتاء ذى البرد القارس,
كان المعلم إدريس, صاحب دكان النجارة الموجود بالنجارين,
داخل السوق التقليدي الكبير, الذى يتوسط المدينة العتيقة,
يعمل بجد واجتهاد, ويسرع فى عمله الذؤوب,
لكى ينجز صندوقا من خشب الأرز, وفق طلب أحد زبنائه.
كانت كل الألواح الضرورية لصنع الصندوق جاهزة 
من حيث النشر والتسطيح والتمليس,
حسب المقاسات التى تجعل من تلك الألواح مجتمعة,
بعد جمعها وتركيبها, صندوقا غاية فى الإبداع, 
يدخل السرورعلى الزبون, الحاج عباس
التاجر المشهور فى سوق الخضر والفواكه,
والذى يسعى من اقتناء الصندوق 
تعزيز علاقته مع زوجته الحاجة كلثوم,
ولأن هذه الأخيرة تعشق الصناديق الأرزية 
التى تتميز بالإتقان والإبداع.
والمعلم إدريس النجاريعرف كل هذه الأمور والأسرار 
والجزئيات عن الحاج عباس.
ولهذا شرع فى عملية جمع الألواح وتركيبها,
مستحضرا فى ذهنه الحاجة كلثوم 
التى تتمتع بذوق رفيع لا يتحمل رداءة الإنجاز.
فبدأ المعلم ادريس بتسمير الألواح بعضها ببعض 
وهو يحرص على تجنب أى خطإ أو خلل.
فصاح اللوح الذى يشكل قاعدة الصندوق 
في وجه أول مسمار انغرس فى جوفه,
إثر وابل ضربات المطرقة المتتالية 
التى تنهال على رأس المسمار .
حيث قال لهذا الأخير محتجا:
" أراك تتوغل فى جوفي من عمق إلى أعمق,
وأنك تؤلمني أشد الألم,
ماذا أجرمت فى حقك؟
هل سرقت مالك؟... هل قتلت قريبا لك؟...
أم ماذا؟...
ألا تدر أن الظلم حرام؟
حرمه الله سبحانه وتعالى على نفسه وقال:
" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا"
ثم قل لي, عم تبحث فى داخل جوفي؟
عن النفط؟...أو الغاز؟...أو الماء؟...أو عن كنز سليمان؟...
فأجابه المسمار بكامل الأدب والهدوء:
" لو تعلم أيها اللوح العزيز 
ما يتلقى رأسي من ضربات قوية,
قاسية, عنيفة, مؤلمة...لعذرتني,
فأنا لا أبحث عن نفط ولا غاز ولا ماء 
ولا كنز فرعون ولا قارون ولا هامان,
اسأل المطرقة التى تفتك بي وبك عم تبحث هى,
فقد تجد عندها الخبر اليقين"
سمعت المطرقة ما دار من حديث بين اللوح والمسمار,
وشعرت أنها فى قفص الإتهام, 
وأنها قد تصبح متابعة من طرف المحكمة الدولية,
بإيعاز من مجلس الأمن 
بتهمة جرائم ضد الألواح المقدسة.
فقالت لهما استرحاما لإبعاد التهم 
التى قد تلحق بها عاجلا أو آجلا:
" أنا لست طاغية لأعشق الظلم وأهواه, 
مثل بينوشي الذى أباد آلافا من سكان الشيلي,
أو بول البوط الذى هو الآخر 
قام بإبادة الطبقة المثقفة بكامبوديا.
فيا مسماري الصبور, 
إذا رأيتني أنزل على رأسك وأشبعه ضربات متتاليات,
لتنغرس فى جوف هذا اللوح المسكين,
الذى لا ذنب له إلا كونه من مادة لينة 
قابلة للنشر والقطع والجمع والتركيب,
فالمسؤول الأول والأخير عن هذا كله, 
هوهذا النجار الذى يعلو رأسه رأسي,
وتقبض يده الصلبة القوية على عمودي,
هو الذى يفعل بنا نحن الثلاثة ما يشاء وما يريد,
فلربما هو الآخر له أسرار لا نفهمها نحن,
و له مآرب نجهلها,
فيبقى إلى إشعار آخر, احتمالان اثنان: 
إما أنه مخير يعبث بنا كيف يشاء,
أو مسخر مدفوع لا حيلة له ولا قوة.
وإذا ثبت أنه يعبث ويلهو, 
فعلينا أن نحيله إلى المحكمة الدولية,
لتنظر فى القضية وتنصفنا من طغيانه وجبروته"
فسمع النجار الحديث الذى راج بين اللوح والمطرقة والمسمار,
فتساءل مع نفسه ماذا عساه أن يقول 
ليبرئ نفسه من هذه التهمة,
فوضع المطرقة على طاولة العمل,
وتوقف عن شغله هنيهة,
وجعل رأسه بين يديه 
الذى بدأ الشيب يغزوه 
من كل جانب بدون رحمة,
وأمعن فى التفكيرمليا, 
وكان يترائ له أنه قد يساق إلى المحكمة الدولية,
إن لم ينجح فى إقناع اللوح والمطرقة والمسمار 
بأنه هو الآخر,
مرغم على هذا الفعل ليست له الخيرة من أمره,
وأن النجارة فى عرف البشر 
ليست فعلا يعاقب عليه,
وأن لديه ترخيص للقيام بهذا العمل, 
وأنه يؤدى ضرائب وجبايات
تثقل كاهله وكم حاول أن تخفف الإدارة من هذا الثقل, 
لكنه لم ينجح فى إقناعها,
وأنه لا يستطيع أن يستعين بمستخدم 
يخفف عنه بعض الأعباء,
وأنه لا يتمتع بالضمان الإجتماعي 
ولا التغطية الصحية,
وأنه...وأنه...".
ثم أجهش فى البكاء حتى تبلل وجهه بالدموع, 
ورق لحاله قلب اللوح والمطرقة والمسمار.
وإذا بزبون يقف على باب دكانه قائلا:
" السلام عليكم"
أجاب النجار:" وعليكم السلام ورحمة الله وبراكاته,
كيف حالك يا حاج؟..."
أجاب الزبون:
" حالي متأزم ما دمت لم تسلمني الصندوق
الذى اتفقت معك على استصناعه, 
يا معلم ادريس,
لقد وعدتنى على الإسراع فى الإنجاز, 
والوعد دين على الحر,
فلماذا هذا التهاون والتقصير؟..."
طأطأ النجار رأسه نحو المطرقة واللوح والمسمار وقال:
" أرأيتم ما الذى يدفعني إلى فعل ما يؤلمكم,
هذا الزبون...وآخر...وآخرون...
وإن لم أقم أنا بهذا العمل, فسيقوم به آخرون...
وإن لي أفراخا فى البيت يصرخون من الجوع والعطش,
وقد يؤول الأمر بأمهم فتلجأ إلى القضاء,
فتقيم علي دعوة فيها سين وجيم,
وسيطبق علي قانون تجويع الأطفال,
وقانون التنكيل بالمرأة"
ثم رفع رأسه اتجاه الزبون قائلا:
" اسمح لي يا حاج عباس...
لقد وجهت موعظة حسنة للوح, 
وتحدثت بالحكمة مع المسمار,
وتجادلت بالتى هى أحسن مع المطرقة.
وأظنني نجحت فى هذه السبيل.
فأعدك أنك ستجد الصندوق جاهزا غدا إن شاء الله"
ثم أخذ المطرقة بقوة وأثخن المسمار بضربات لا ترحم,
فما كان للمسمار من اختيار 
إلا أن توغل فى جوف اللوح أكثر فأكثر.
ثم أتى بمسمار آخر...ومسامير أخرى...
ولم يسمع للمطرقة إلا طنين يطرب المارة
الذين يقولون للمعلم إدريس النجار:
" ينعم صباحك يا معلم...إياك أن يفلت المسمار من يدك...
أحكم القبضة على المطرقة...
فإحكام القبضة هو سر إتقان العمل وإحسانه".
فيجيبهم المعلم إدريس النجار بثقة وارتياح:
" أنا فى الخدمة ورهن الإشارة,
فالضرب بقوة على رؤوس المسامير 
لتنغرس فى جوف الألوح,
هى مهنتي 
أكسب بها قوت أبنائي 
وأتفادى بها غضب زوجتي"
فسمع من جديد احتجاج اللوح والمطرقة والمسمار:
" نحن لا نستطيع أن نفهم 
كيف يجد البشر سعادتهم فى إيلامنا"
حامد البشير المكي
 فبراير 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire