jeudi 17 août 2017

السنابل والعريش

السنابل والعريش

هذه القصة من وحى الخيال الذى يرتكز على شظايا من الواقع
فكل مقاربة أو مشابهة فهى من قبيل الصدفة
علما بأن من وجد تطابقا ما معها فليحاول أن يستخلص العبرة
والله ولي التوفيق
 000 
عندما تركني ورحل إلى البادية
قلت لعله مل المدينة وضجيجها الصاخب
وأنا أعرفه لا يرتاح إلا للسكون والهدوء
وأنه لا يتحمل تلك الأمواج البشرية 
التى تطفح على شوارع المدينة وأزقتها
وأنا أعرف أنه كان لا يغادر البيت فى الماضى إلا فجرا
عند ذهابه إلى المسجد لصلاة الصبح

إذ بعدها يتجول عبر فضاءات المدينة وهى شبه خالية من المارة
إلا النزر القليل الذى يتوجه جادا إلى عمله

كان عدنان يمشى راجلا 
ويرفض أن يتجول على متن سيارته
التى كان يتركها فى مخدعها بالبيت

وكان يسعى بهذه الجولة التى كانت تدوم ستين دقيقة بالتمام
أن يحافظ على لياقته البدنية
وأثرها الإيجابي على نفسه وعقله

أما وأنه ابتعد عن المدينة 
مستنجدا بالبادية وسهولها وتلالها 
إذ كان تبريره لهذا القرار أنه أصبح لايتحمل 
جعجعة المدينة وضوضاءها
وأن حراك الساكنة وحركة المرور 
بكل أشكال التنقل العتيقة
من حمير وبغال وخيل 
وعربات مدفوعة باليد وأخرى مجرورة بالحيوان
 ومركبات حديثة كالسيارات والشاحنات 
والحافلات المتخلفة صيانة
والمخلفة فى سماء المدينة تلوثات سامة
و سيارات أخرى كالحسناوات 
تمر مذعورة من هول ما قد يصيبها
من أذى تلك المركبات الطاعنة فى السن

لم يكن هذا هو السبب الوحيد الذى دفع بعدنان
لمغادرة المدينة واللجوء إلى القرية
بل هناك أسباب أخرى لا تقل أهمية
مثل تلاشى المناخ الثقافي 
حيث هيمنت ثقافة ما بعد الحداثة
وهى ثقافة سطحية آخر طراز 
ترزح تحت قبضة العولمة
وآلياتها المدمرة من فضائيات ومنتديات
إضافة إلى المهرجانات والتظاهرات والمؤتمرات
التى أصبحت توكل إلى مؤسسات متخصصة 
فى الإخراج والإعلام والتسويق
  حيث لها القدرة الفائقة أن تجعل من الحبة قبة
وأن تصنع من حدث بالغ التفاهة حدثا جللا
تتكلم عنه القارات الخمس أو السبع لأيام وأسابيع
بله وشهور حسب الخط البياني للمردودية والنفعية
المادية والمعنوية
وسبب آخر أقنع عدنان على مغادرة المدينة
وهو هذا المد الهائل والخطير 
للهجرة من الشمال إلى الجنوب
بعدما كان الحديث وما يزال عن هجرة الجوعى 
من الجنوب إلى الشمال
فما هو سر الإقبال المتزايد لأبناء أوروبا على الجنوب
وخاصة العالم العربي
أهو مجرد حب التشريق
كما كان بالأمس حب التغريب؟
أم هناك جوعى من صنف جديد 
أرغمتهم الحاجة على النزوح إلى الجنوب
لأن تكلفة العيش فى الجنوب أخف من تلك التى يتحملها
أبناء الشمال بمرارة لا تطاق
أم هناك دوافع أخرى خفية لانلمسها بالبصر والبصيرة
إلا عندما ننكب عليها بالتحليل والتمحيص والنقد والنقض؟
ألا ترى أن ظاهرة النزوح إلى الجنوب فى ظروف كهذه
تثير الريبة والخوف؟
خذ مثلا الجماعات من النازحين الذين يفضلون الإقامة
فى الأحياء الفقيرة من المدن بأزقتها الضيقة
ويختارون كذلك الإقامة فى المداشر والدواوير القروية
قد تكون عديمة المرافق الحيوية
بل أغرب من هذا وذاك إقبالهم بلهف شديد
على الزواج ذكرانا وإناثا بشباب أهل القرى وفقراء أهل المدن
هل من الرومنسية فى شئ 
إذا بقى للرومنسية وجود فى هذا العالم؟
كل هذه الأسئلة والتساؤلات أنهكت فكر عدنان
وعندما أخبرني أنه عزم على الرحيل 
من البادية إلى ما أبعد منها بمسافة كبيرة
لم أفهم الدافع الحقيقي لهذا القرار
سألته: لماذا تريد أن تبتعد أكثر عن مسقط رأسك؟ 
لم يجبني ولم يرد أن يعيرني أى اهتمام
فأنا لا أفهم وأريد أن أفهم ومن حقي أن أفهم 
ألم يعدني بالأمس القريب 
أيام كنا على بساط البوح جالسين
وأمام فجر الهيام متقابلين 
وأصابع أيدينا متشابكة تشابك قلبينا وتنادى:
هذا عهدنا حتى آخر رمق

تفهمت هروبه إلى البادية وقبلت شكواه
وقلت فى نفسي: 
على كل حال لقد انتقل إلى أرض الأصالة
لقد رجع إلى الجذور 
لقد ذهب ليرتوى من منبع القيم
ويغسل كيانه من تلوثات الحداثة 
وما بعد الحداثة
أما وهو ذاهب إلى ما أبعد فلا!
ولكن ما حيلتي لكى أمنعه 
وأصده على هذا الرحيل الأخرق 
غادرت المدينة فى الصباح الباكر 
متوجهة إلى البادية 
كانت الشمس على وشك الشروق 
ولما ابتعدت عن المدينة 
كانت السماء صافية صفاء حبي لعدنان
رغم الحدث الجلل الذى أصابني

كنت أحاول أن أتشبث بعنان التفاؤل 
لأنني لا أجد بديلا عنه 
كانت ريح طيبة منعشة تهب من جهة الغرب 
وكنت أتفاءل بهبوبها اللطيف
وصلت إلى قرية أهل عدنان
استقبلتني كلابها بنباح مخيف 
وكأنها تقول لي على لسان حالها
ارجعي من حيث أتيت 
فالقرية لا ترغب فى استقبالك
تساءلت: 
لماذا لا تريدني هذه القرية؟ 
وأنا لم أزرها فى حياتي إلا مرتين اثنثين
الأولى عند وفاة جدة عدنان من أبيه 
والثانية عند وفاة أبيه
صاحت بي مقبرة القرية وأنا أمر بجانبها : 
أنت نذير شؤم
أنت لا تزورين القرية إلا فى مناسبات الموت

أطفال القرية كانوا يهرعون وراء سيارتي
وكان مجيئي بالنسبة إليهم حدث مسلي 
لقلة أسباب التسلية فى القرية
كانوا يهرولون وأصواتهم تتعالى أكثر فأكثر
خفت أن يتطور لعبهم وضجيجهم إلى ما هو أسوأ
أن يوحى إليهم شيطان الطفولة برجمي بالحجارة
الأمر الذى أثار حفيظة الرجال والنساء 
فخرجوا بدورهم ليشاهدوا ما يحدث 
وقفت على باب الدار دارالأجداد 
التى من المفروض أن أجد فيها عدنان
لم أزر هذه الدار منذ زمن بعيد 
لم تتغير ملامحها
لكن أكل الزمان من جدرانها 
وترك على أبوابها جراحا وتشوهات مرعبة 
أوقفت السيارة 
و خرجت منها حاملة معي بعض الهدايا
لبقايا أهل عدنان خاصة منهم النسوة 

أتذكر بعض الأسماء 
ولكن لا أستطيع التعرف على وجه من وجوه أقربائه 
نظرت إلى الجماعة الواقفة أمام الدار 
وإذا بي ألمس استغرابا مريبا 
نداني أحد الرجال: 
يا زهرة ألست أنت زهرة؟
لعلك أتيت تبحثين عن عدنان؟ 
لقد غادر القرية منذ امس البارحة 
فقلت وأنا كالمشدوهة: 
وأين سافر؟ 
هل أخبركم عن وجهته؟ 
أجابني الرجل وفى نبرته بعض السخرية والتهكم:
أو لم يتصل بك بالهاتف؟ 
على كل حال هذا شأنه ونحن لا نتدخل فيه
لم ألمس فى وجوه القوم عبارة ترحيب
أو على الأقل عبارة رحمة إثر السفر الشاق بالنسبة لي
لكن الأمر سيزيد من استغرابي
حين رمقت وجوها شقراء 
وعيونا زرقاء 
تختلط بأبناء القرية
ولا يحتاج الملاحظ كبيرعناء 
لإستخلاص أن القرية
أصبحت محطة إقبال من المستوطنين الجدد 

ركبت على التو سيارتي 
لم أكن على وضوح من أفكاري
التى كانت تتضارب فى عقلي المهزوز

كنت أشعر أن السيارة هى التى كانت تقودني إلى المجهول 
أأتوجه شمالا أم جنوبا؟ 
أم أتوجه شرقا أو غربا؟ 
شعرت بدوران يزلزل وعيي
ورجلي التى تضغت على المسراع 
أصبحت ثقيلة وبدأت أفقد ضبطها
عرجت يمنة على حافة الطريق 
وأوقفت السيارة لأتنفس الصعداء
لأن إختناقا يضم صدري بعنف 

لم يكن معي أية جرعة ماء 
وهذا خطأ إرتكبته
أنا التى أعانى من مرض مزمن 
وأحتاج لشرب الماء بين الآونة والأخرى
نزلت من سيارتى ودخلت حقلا إهتز بسنابل القمح
وأوشك على الإصفرار لأن الفصل يقترب من الصيف

رجوت الله أن يجعل لي مخرجا وأن أعثر على مصدر للماء 
مشيت بضع خطوات بصعوبة وكنت أتثاقل فى مشيتى
وقد يخيل للملاحظ أنني سكرانة أو ربما مجنونة

الشئ الوحيد الذى كان يؤنسني هو زقزقة أسراب الطيور
التى كانت تغير على 
السنابل لتأكل رزقها رغدا بإذن ربها 
لمحت فى وسط الحقل عريشا من قصب 

قلت لعل به أحدا قد يسقيني جرعة ماء 
فما إن وصلت إلى العريش حتى رأيت... وأغمى علي
ولما أفقت من إغمائتي واسترجعت وعيي
وجدت رأسي على زند عدنان وباقي جسدي مستلق
مطروح على حصير داخل 
العريش
قلت لعدنان: ماذا تفعل فى هذا الحقل وحدك؟
أجابني وهو يبتسم: كنت أنتظرك
قلت مستغربة ومعاتبة:
وكيف عرفت أنني سأعثر عليك 

فى هذا الحقل بين السنابل والعريش ؟
أجابني بهدوء: القلب لا يخطئ 

قلت: لقد روعتني يا رجل أتريد هلاكي؟
أنت وحش لايحن ولا يرحم 

عقب على قولي: بل أنا أحبك بطريقتي
لا أطيق العلاقة النمطية بين المرأة والرجل
أبحث عن الحب الذى يثمره العريش بين السنابل
 سألته: وما هى وجهتك الآن يا أحمق؟ 
أجاب: وجهتي وأنت معي أن نصعد إلى القمر
وإذا وجدناه تعولم
ننتقل إلى الشمس ثم الأبعد فالأبعد
حتى نصل إلى مجرة الإنسان
الإنسان المرتوي بالقيم والمبادئ
لنبنى معا قرية الحق والعدل والأمان
فقلت مستغربة: وبيتنا ومدينتنا ووطننا؟
قال: لقد ضاعت الأوطان وحلت محلها الأوثان
ألم تري كيف استقبلك أهل القرية؟
لقد عم البلاء فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس
000
ملحوظة
علاقة زهرة بعدنان
هى علاقة أصبحت نادرة جدا فى هذه الأيام النحسات
فالمتواثر الملموس حاليا
هى علاقة النفعية بكل ما تحمل لفظة نفعية من معانى وأبعاد
فأصبحت الفتاة لا تطلب إلا
" لجمالها أو لحسبها أو لمالها"
وأصبح الفتى لا يقبل إلا
" لماله ونفوذه"
حيث أن هذه العلاقة تنكسر بمجرد أن يمسها زلزال خفيف
بل تنفصم أحيانا بالإبتسامة والعناق بدعوى الرقى
على نغمات راقصة داخل نادى دافئ
فزهرة هى تلك الفتاة المسلمة العالمة بدينها ودنياها
المحافظة على عزتها وكبريائها
الصابرة احتسابا لربها الصامدة فى وجه الزوابع
تريد أن تبقى مع عدنان فى السراء والضراء
دون أن تسحقها قدماه
على قاعدة المودة والرحمة
وهى تعرف يقينا أن عدنان يرتبط بها ارتباطا عضويا
رغم ما يبدو من هروبه نحو المجهول
وأنه صادق فى قوله وفعله
له إرادة صلبة على الصمود أمام التيارات الهدامة
وهو يعتقد جازما أن الله لن يخلف وعده الحق
" ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"
حامد البشير
يوليوز2009

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire