dimanche 20 août 2017

الحسناء والغازية

الحسناء والغازية

عندما أبصرتها, ويا ليتني لم أبصرها,
كانت الساعة الثاني عشرة زوالا,
كانت الساحة التى تفصل السوق التقليدي عن الجامع الكبير
مكتظة بالمارة من مختلف الأجناس والألوان والأعمار,
منهم ابن المدينة الذى لم يغادرها منذ أن سقط رأسه على أديمها,
ومنهم من اتخذها مقرا لعمله وإقامة له ولأهله منذ زمن بعيد,
ومنهم من حل بها منذ زمن قريب 
وما زال يتردد هل يستقر بها نهائيا أم يغادرها بعد حين,
ومنهم من جاء يزورها لمدة قصيرة 
ثم يرحل عنها وقد تأخذ بلبه فيعشقها,
أما عن نفسي أنا, فالحمراء مسقط رأسي, 
وهى مستقري ولا أريد عنها بديلا,
وفيها متاعي المادي والمعنوي, وأنا عاشقها قبل غيرها,
وهى ملهمتي خلال أحلام اليقظة 
وخلال أحلام النوم عندما أسترخى للحظات
بعد إعمال عقلي فى مجالات شتى علمية وفكرية وأدبية,
أو بعد إبحاري فى هموم الأهل والأقارب والإخوان وكل الناس,
ومحاولة إيجاد حلول لقضاياهم, ولو بالقدر اليسير,
كما قال الرسول الأكرم:" من فرج على مسلم كربة من كرب الدنيا,
فرج الله عليه كربة من كرب الآخرة".
أبصرتها... 
أبصرت حسناء ليست كباقى الحسناوات,
فى وسط الساحة المليئة بالناس الذين أتوا من كل حدب وصوب,
ليحققوا مآرب لهم هامة أو بسيطة,
ويقضوا حوائج لأهليهم وذويهم, بأثمان بخسة أو مرتفعة,
كل حسب طاقته وقدرته.
أبصرتها تمشى كالطاووس فى بساتين بابل,
والشمس وقتها كانت فى كبد السماء,
وكان الفصل صيفا, 
والحر ضيفا ضاغطا بكلكله على الرؤوس,
سيما تلك التى لم تحتم من لهيبه بعمامة أو طاقية أو قبعة, أو مظلة.
فترى العرق يتصبب من الجباه 
ويغمر العيون وينهمر على الخدود.
وترى حاسري الرؤوس 
يجففون العرق بمنديل أو ببديل عنه,
منهم من اعتاد أن يأخذ معه مروحة من الدوم 
يحركها بين الفينة والأخرى,
ليدفع بها الهواء نحو وجهه 
أملا فى إنعاش بشرته المبللة,
ولكن دونما جدوى 
لأن العرق لا يزداد إلا سيلانا من فرط الحر الهائل,
فيضعف الصبرإلى أن ينقرض تماما,
فترى العطشى من كل الفئات 
يهرعون إلى المنصات الخاصة بالمشروبات الغازية,
التى قال عنها الإشهار أنها مثلجة... ومنعشة...,
مشروبات مشحونة بغاز أوكسيد الكاربون,
وهى فعلا تغزو جيوبنا وأمعاءنا,
تغزون بها الشركات العابرة للقارات, 
كوكاكولا وبيبسيكولا وفانتا وشويبس ومسميات أخرى
أدخلت فى لغة تواصلنا مصطلحات 
غيرت لساننا الأصيل إلى لسان هزيل.
فكلما شربنا من الغازية قنينة 
تدفعنا إلى التهام قنينات أخريات دونما شعور,
فعلى رسل عبد الوهاب المغنى فى رائعته كيليوبطرا:
" كلما غرد كأس شربوا الخمرة لحنا"
إلا أن الخمرة استبدلت بالغازية,
ويبقى الإدمان هو نفسه يؤثر فى النفس ويتمكن منها.
أبصرت تلك الحسناء وهى تسبح فى بحيرة المتجولين 
كأميرة من أميرات بنى حمدان,
ما إن تدفع بقدم إلى الأمام, حتى تنفرج لها السبيل, 
تحت تأثير فتنتها على أعين المارة,
رجالهم ونساءهم وأطفالهم على حد سواء, 
وترى الأعناق تدور وتدور فوقها الرؤوس,
لتبقى العيون مرصودة فى اتجاه تلك الحسناء, 
وكأن هذه الأخيرة تبث ذبذبات الجذب اتجاه كل المحيط
الذى تتحرك فيه بكل ثقة ونخوة ونشوة.
والماكرة تعرف يقينا أنها تشد بلب الناظرين, 
كما تشد الحية بلب صيدها.
أبصرتها وشغلت أداة الدفاع الذاتي 
لتفادى تأثير فتنتها على لبي,
وأنا الخبير بالنساء 
فى مظهرهن ومخبرهن وجوهرهن,
وفى مدى قدرتهن على فتنة الرجال وسلبهم ألبابهم,
أدخلت كل المعلومات التى تشع من الحسناء التى أبصرت,
أدخلتها فى حاسوبي الذى يوجد داخل جمجمتي,
هذا الدماغ الذى خلقه الله وأحسن صنعه,
فتارة يخضع إلى سلطان العقل,
وتارة يستبد به الهوى,
وتارة أخرى يهوى به حاله 
فترى الغرائز تلعب به كيف تشاء,
وتلهو به كما تلهو الأطفال بالدمى 
لأنها تحتاج إلى اللعب لإمتصاص طاقتها الطفولية الهائلة.
أبصرتها فقلت لقلبي:" أأعجبتك؟"
لم يجبني, فقلت له ثانية:" أأعجبتك؟"
فلم يجبني ولم يعر لسؤالي أي اهتمام.
فقبض عليه هواى بيد من حديد وحركه بقوة
لعله يستيقظ من سباته أو يكف عن انشغاله,
وأنا أعرف هواي, 
إنه هوى من النوع المستبد الذى لا يرحم,
فكلما ركز على أمر لا يفارقه حتى يحققه, 
باللين أو بالشدة.
فصاح قلبي:" آى آى لقد أوجعتني, ماذا تريد؟"
لم ينبس لساني ببنت شفة, 
فلساني يتصف بحكمة بالغة,
فلا يتدخل فى شؤون الهوى مع القلب إلا نادرا,
لساني أقرب إلى عقلي من أى جهاز آخر.
فأشارالهوى إلى تلك الحسناء الفاتنة ذات العيون الحوراء,
والشعر الطويل عسلي اللون,
المشدود بلولب أصفر فاقع يسر الناظرين,
والوجه الصبوح الذى يبعث فيك البهجة والإنشراح,
والأنف الأقنى الذى يشعرك بالزهو والكبرياء,
والقامة الممشوقة الفارعة التى ترفع إحساسك إلى قمة الإنبهار,
والمبسم الضحوك الذى تشع منه الثنايا كالماس.
أشار إليها وقال لقلبي:
" أنظر يا كسول إلى هذا الجمال الذى لم ترالمدينة مثيلا له
منذ أن غرقت أطلنتيد فى عرض المحيط"
أبصرتها فرصدها دماغي كما يرصد الرادار الهدف 
فلا يتركه يفلت من فلكه.
فرغم الزحام الذى يدمج المارة بعضهم فى بعض,
فيبدو لك وكأن الناس أصبحوا مجرد أمواج 
تتقاذفها حركة الأقدام والسيقان,
ذات اليمين وذات الشمال, 
مثل وادى النمل الذى تظن
أنه يتحرك دون هدف, ولكنه يعمل بانتظام وانضباط,
إلا أن وادى المارة ليس له هدف واحد موحد,
وليست له وجهة يتحرك لبلوغها, 
وهو على حاله يملأ الفضاء أصواتا عالية مزعجة.
أبصرت الحسناء 
وما زال قلبي غافلا عن الوجهة التى عثر عليها هواي,
والتى افتتن بها وقال فى نفسه:
" لن أتركها لغيري"
فكلما ابتلعت أمواج المارة تلك الحسناء التى نزلت بمدينتي
وتخفيها عن بصري, من حين لآخر,
كلما شعرت بأن قدماي تسرع الخطى 
ويداي تفتح فرجة من بين المارة,
لتلتحق بالحسناء وتلتصق بمشيتها 
بمسافة لا تتعدى الشبر الواحد.
أبصرتها واستفاق قلبي تحت إلحاح هواي 
الذى لم يكف عن إيقاظه.
فصاح:" أين هى...أين هى...؟"
ما إن أراد هواي أن يدله عليها حتى غابت عن ناظري 
عند مدخل السوق التقليدية,
حيث أن الزحام اشتدت وطأته 
وكثر التدافع بين المارة,
بل والصراخ أيضا 
والنزاع بينهم لأتفه الأسباب.
لم أعد أبصر الحسناء...
أينما وجهت عيني لا أرى إلا القبح الفاضح 
لاصقا بالوجوه العبوسة.
يا له من يوم شديد الحرارة, 
وشديد العبوسة...
رأسي حاسر لا تحميه عمامة 
ولا طاقية ولا قبعة, ولا مظلة,
العرق يتصبب من جبيني, 
وليست لدي مروحة 
أوهم بها وجهي أن الطقس محتمل,
لساني جاف يابس من العطش 
واللهث وراء الحسناء التى غابت عن ناظري,
هواي يركلني ويدفعني إلى إسراع الخطى,
لعلي ألحق بفاتنتي التى ابتلعها الزحام.
أريد قنينة غازية, 
أيا كان نوعها, 
المهم أن ينزل سائلها المثلج المنعش,
وينتشر داخل أمعائي 
ويصعد غاز أكسيد الكربون إلى دماغي,
ليخدره ويوهمه أن الغازية فعلا تروى العطشان...
فلتغزوني الغازية المثلجة المنعشة 
إلى أن أرى مجددا تلك الحسناء التى غابت عن ناظري.
صرت أصرخ كالمجنون...بصوت عال:
" أريد الغازية..., أعطوني الغازية...,"
أيقظتني أمي قائلة:
" فق يا بني من كابوسك الذى جعلك تصيح كالممسوس"
فصحت فى وجه أمي:
" أماه...هل رأيت تلك الحسناء؟ هل أتيت بالغازية؟"
"أي حسناء يا بني؟ 
وأي غازية؟...
قم فلقد تأخرت عن عملك"
حامد البشير المكي
 يناير 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire