mercredi 23 août 2017

التربية والتكوين ... الى أين؟

التربية والتكوين...إلى أين؟

أنا أنتمى الى الجيل المخضرم 
الذى تلقى تعليمه الإبتدائي والإعدادي
خلال مرحلة الإستعمار
والمرحلة الثانوية والجامعية خلال العقد الأول من الإستقلال,
فعرفت الكتاب الذى كان يتلقى فيه الأطفال مبادئ القراءة والكتابة,
ويحفظون بعض السور من القرءان,
وقلة قليلة من هؤلاء التلاميذ كانت تتابع دراستها فى جامع ابن يوسف,
للحصول على إجازة فى علوم الدين, أو فى اللغة والآداب.
نقلني أبي إلى إحدى المدارس الحكومية التى كانت تطبق المقرر
الذى صممه الإستعمار لأبناء المسلمين,
وكان الغرض من فتح هذه المدارس هو إخراج فئة من أبناء البلد,
تكون طيعة فى يد المستعمر,
تطيعه وتحترمه بل تهابه وتخدمه كما يخدم العبد سيده.
ولأن الأمر كذلك, أدرك أبي أنه أخطأ الطريق, 
وأنني إن بقيت فى المدرسة الحكومية,
فسأسلب من هويتي العربية الإسلامية, 
فنقلني رحمه الله الى إحدى المدارس الحرة
التى أسستها الحركة الوطنية, 
وهى مدارس كانت على عكس الأولى,
تطبق مناهج تأتيها من المشرق العربي, 
من اللبنان بالتحديد.
واضررت أن التحق بعدها بالإعدادي الحكومي 
الذى كانت مناهجه من تدبير الإدارة الإستعمارية,
لأن المدرسة الحرة لم تكن تتوفر آنذاك على المستوى الإعدادي والثانوي.
فلم يكن أمام الآباء والأولياء 
إلا أن يختاروا لأبنائهم أحد الحلول الثلاثة:
إما أن يذمج الأب ابنه فى المهنة التى يمارسها 
وكان هذا الأسلوب معمولا به كتكوين عملي,
إما أن يلحق ابنه بجامع ابن يوسف وكان هذا الإختيار نادرا,
إما أن يسجله فى المدرسة الإعدادية الحكومية.
ويمكن إضافة بديل رابع, 
فى حالة إذا كانت أسرة التلميذ قادرة, ماديا ومعنويا,
على بعثه إلى المشرق العربي, 
إلى مصرأوسوريا أو لبنان,
وهذه القدرة لم تكن متيسرة إلا لبعض الأسر 
تعد على رؤوس الأصابع.
نقلني أبي إلى الإعدادي الحكومي, 
وكان الإستعمار وقتها يلفظ أنفاسه الأخيرة
تحت الضربات الموجعة للمقاومة وجيش التحرير.
وبزغ فجر الإستقلال... 
وكان يحمل معه كل الآمال التى كنا نحلم بها,كبارا وصغارا,
تلك الآمال التى يمكن اختصارها فى ما يسمى بالغد الأفضل.
فكنا نتوهم أو كانوا يوهموننا أن قطار الحياة الكريمة قد انطلق:
حيث سيقضى على الجهل والأمية,
وسيقضى على الحرمان والفقر,
وسيقضى على الظلم والإستبداد.
وأنه آن الأوان أن يذوق ابن البلد طعم الحرية والكرامة.
وأنه سيتلقى التربية والتكوين اللازمين 
للمساهمة فى بناء صرح البلد,
بغية رفع شأنه بين الأمم الراقية العالمة القوية.
ووقتئذ نادى بعض صناع القرار بتعميم التعليم, 
وتعريب الإدارة ومغربة الأطر.
وسأترك لمن أراد أن يقوم بتقييم تلك المرحلة الحرجة,
ليعرف هل ذلك المسعى الطموح والنبيل تحقق بالفعل,
أم انحرف عن المسار الذى خطط له...
وأنا لا أدري هل كان وقتئذ تخطيط البثة؟
وللأمانة والتاريخ فإن على مر الأيام, 
كان هناك من انكب على ملفات المنجزات,
وعالجها بالتحليل والتمحيص والنقد البناء.
بل منهم من واصل اجتهاده باحثا عن حلول للمشاكل 
التى أفرزها تطبيق المناهج,
ومقترحا البدائل لتغيير المسار الى الوجهة الفضلى حسب اجتهاده.
وخلال المسيرة التربوية التكوينية, 
اختلفت الآراء باختلاف الأهواء والمشارب,
فتارة تميل الكفة الى أصحاب التعريب 
لربط الأجيال الصاعدة مع هويتها العربية الإسلامية,
وتارة أخرى يضغط أهل التغريب بقوة 
لربط الأجيال مع الثقافة الغربية,
بدعوى الإلتحاق بركب المدنية التى بدونها 
يبقى البلد غارقا فى أوحال التخلف.
وتوالت الأيام, والسنون, والعقود,
وبقيت مسألة التربية والتكوين عرضة لتداول التجارب,
ما إن تبدأ تجربة بالتطبيق, حتى تلغى لتخلفها تجربة أخرى,
وهكذا إلى أن يأتى الله بأمره.
فكان الشأن التربوي والتكويني لا يحظى بحلول حاسمة
تضع حدا للفوضى وترسى دعائم المناهج الهادفة 
والسليمة على أرض صلبة,
ليتمكن البلد من صناعة الإنسان الصالح المصلح,
والعمل الجاد على إخراج الأجيال القادرة على إنجاز المستقبل الواعد.
وليس من العبث فى شئ إذا قام الإنسان بفحص ذاته
ليعرف ما بداخالها ويكشف عن مواطن قوتها وضعفها,
لعله يهتدى إلى تحديد الأدواء التى تهددها,
ويهتدى كذلك إلى الأدوية التى تساعد الذات 
على شفاءها واسترجاع عافيتها.
أنا لست خبيرا من ذوى الإختصاص فى مجال الترية والتكوين.
لا أقول هذا هروبا من واجب التبيين والتبليغ,
الذى هو فريضة على كل مسلم له القدرة 
على إيصال الكلمة الطيبة إلى من هو أهلها.
وبالمناسبة من قال أن الكلمة الطيبة تكون دائما حلوة وعذبة؟
المفروض أن تكون صادقة وأمينة ولو كان طعمها علقما,
لأن معسول الكلام لا يساعد إلا على الإستمرار فى الغي.
وأنا لا أحب أن أخوض فى ما ليس لي به علم.
والمعروف المتداول بين أهل العلم 
أن كل مجال له علومه وخبراؤه.
ومجال التربية والتكوين له هو أيضا علومه 
والعارفون بخباياه وأسراره.
وهذا لا يتنافى ولا يتعارض مع حق الأباء والأولياء 
فى المشاركة فى الشأن التربوي التكويني.
بل بالعكس, هم مطالبون بالمشاركة الفعالة والبناءة.
وإذا كان الأمر كذلك, فأنا أب لي أولاد, 
عشت فيهم ومعهم تجربة التربية والتكوين,
وعاشوا معي ولأنفسهم تلك التجارب, بحلوها ومرها,
وأنعم الله سبحانه وتعالى علي بنعمة الأحفاد والأسباط,
فكنت لهم الجد بل الأب الثانى, 
إذ واكبت مسيرتهم التربوية التعليمية عن قرب,
لا كملاحظ من خارج الدائرة ولكن كمؤثر فى حياة
الأحفاد والأسباط دون هيمنة أو تسلط.
فمن هذه الزاوية لا غير أريد أن أقتحم هذا المجال
الذى هو بمثابة الحصن الذى لا يقبل أهل الدار 
أن يقتحمه أحد غيرهم مهما عظم شأنه,
ولأنهم يعتقدون عن صواب أوخطأ, 
ولكن عن حسن نية واعتقاد جازم,
أن لهم وحدهم الشرعية والصلاحية 
فى الخوض فى هذا المضمار الحساس.
ورب عالم بحالي يذكرني:
" إن تواضعك فى غير محله,
لقد شاركت فى الحملة الوطنية الأولى لمحو الأمية 
مع بداية الإستقلال,
ولقد كنت من المتطوعين فى مطلع الستينات 
فدرست الرياضيات والفيزياء
لتلاميذ المستوى الثانوي بالعاصمة آنذاك,
وساهمت فى تكوين أطر التجهيز والمعادن 
فى مطلع السبعينات,
حيث درست الإقتصاد وهندسة المياه.
ثم لماذا تخفى أنك أحد المؤسسين للمدارس الخصوصية؟"
نعم هذا صحيح يا صديقي, 
ورغم ذلك لا تؤهلنى هذه التجارب لأن أزاحم ذوي الإختصاص.
فدعني من فضلك أن أنتقل إلى صلب الموضوع لأصب عليه تأملاتي
المنبثقة من داخل كياني الذى شيبته آلامي وأحلامي .
التربية والتكوين...الى أين؟
سمعت هذا السؤال أو التساؤل مرات عديدة 
من طرف الآباء والأمهات,
وأولياء الأمور عموما, خلال عدة مناسابات.
التربية والتكوين...الى أين؟
لا يمكن أن يقرع آذانك دون أن تحس بقشعريرة تذب عبر شرايينك,
سيما إذا كان لك أبناء يتابعون دراستهم, 
سواء فى العمومي أو فى الخصوصي.
التربية والتكوين...إلى أين؟
كلما سمعت هذا السؤال, كنت أشعر بأن السائل,
بطرح سؤاله هذا مختزلا فى صيغة المفرد,
أوعلى شكل حزمة من الأسئلة والتساؤلات,
سيما عندما يتجاذب الحديث جماعة من الآباء والأمهات.
كنت أشعر بأن كل من يطرح هذا السؤال يطرحه بصدق وأمانة.
تلمس بيسر أنه يحمل هما ثقيلا, 
هم تربية أبنائه وهم تكوينهم ليكونوا قادرين
على تحمل الأعباء التى لن ترحمهم 
إذا هم لم يؤهلوا لمواجهتها.
بعض أولياء الأمور يرى المستقبل مظلما, 
وآفاقه مسدودة وأبوابها موصدة,
والبعض الآخر يرى أنها ليست كذلك بهذه الظلمة المطبقة,
ولكن رغم ذلك تبقى قاتمة, 
سماؤها رمادية اللون كسماء فصل الشتاء عند تهاطل الأمطار.
وقلة قليلة تتشبت بقشة التفاؤل قائلة:
" لعلها التجربة الأخيرة التى سيخضع لها أبناؤنا,
ثم بعدها تنطلق بشائر المستقبل الواعد"
وفى بعض الأحيان يشارك بعض المدراء, 
كما يقول إخواننا المشارقة,
أو الخبراء الذين لهم باع طويل فى مجال التربية والتكوين,
أو بعض المعلمين والأساتيذ المتضلعين فى هذا المجال,
يشاركون فى النقاش الدائر الذى يتطاير غباره 
بين ثلة من الآباء والأولياء,
فيتدخل أحد المنتمين إلى أسرة التربية والتكوين 
ليضع النقاط على الحروف:
" يا إخواني وأخواتي ليس بلدنا هو الوحيد 
الذى يتخبط فى هذه المشاكل العويصة,
فالتربية والتكوين قد شيبت الركبان منذ سالف الأزمان,
لو اطلعتم على ما تواجهه أعتى الدول فى العالم فى هذا الشأن,
أمريكا مثلا تعانى, 
وكذلك أوروبا المتحدة, وروسيا المتحدة والصين...
أما عن العالم العربي فحدث ولا حرج...
فالنظريات التربوية شيئ 
والممارسة على أرض الواقع شيئ آخر."
فيسأله الآباء والأولياء سؤالا يتكرر دائما فى مثل هذه المحافل:
" وهل من مخرج...هل من حل...هل من انفراج,
فلقد بعنا كل ما نملك أو نكاد لتربية وتكوين أبنائنا؟؟؟"
فيجيبهم الخبير بكامل الثقة والحزم:
" تسلحوا بالصبر والصمود, 
فلكل داء دواء, 
ونحن معشر الخبراء منكبون
على هذا الموضوع, 
ليل نهار, 
لا نعرف الكلل ولا الملل."
ذات مرة كنت أنصت إلى أحد هؤلاء الخبراء
يتحدث إلى مجموعة من الآباء والأمهات 
بحماس يثير الإنتباه,
وكان بصحبتي وقتئذ أحد أحفادي, 
من صغار السن,
وإذا بحفيدي يجذب جلبابي قائلا:
" جدو...جدو...عندما أكبر, سأسافر الى المريخ, 
على متن سفينة فضائية
أصنعها بنفسي...وسأحملك معي يا جدو"
فقلت فى نفسي :
"هل سيتحقق حلم هذا الطفل الصغير بعمره الكبير ببرائته؟"
ويبقى السؤال يطرح نفسه بإلحاح:
" التربية والتكوين...الى أين؟"
أنا أعتقد أن هناك خلل فى استيعاب مفهومي التربية والتكوين
لدى أغلب الآباء والأمهات وأولياء الأمور,
وأن القلة القليلة هى التى تدرك أن المسألة تكمن فى شراكة
بين البيت والمدرسة والمجتمع.
إذا تم التنسيق بين أركان هذا المثلث, 
يكون مشروع التربية والتكوين ناجحا.
علما بأن لكل مشروع عوائق مادية ومعنوية 
يمكن التغلب عليها بالحكمة والصبر.
الأمر الذى يساعد المجتمع ,فى آخر المطاف,
على قطف ثمار كل المجهودات التى بذلت وتبذل,
لتكوين الطلبة والطالبات, وتأهيلهم,
لينخرطوا داخل المجالات الإنتاجية 
والدفع بعجلتها لتحقيق الغد الأفضل .
أما الدولة, فدورها من منظور العقد الإجتماعي 
دور موجه ومحفز ومنسق.
وليس القصد من هذا الكلام هو التخفيف 
من واجبات الدولة والتزاماتها.
ولكن الهدف هو إقناع أولياء الأمور 
من آباء وأمهات ليتحملوا فعلا
واجباتهم فى هذا المجال الحيوي الخطير.
وأن يكون دورهم أكثر فاعلية 
على مستوى العملية التربوية والتكوينية.
ولا يتم هذا إلا إذا أصبح البيت هو المدرسة الأولى 
التى يتربى فيها الأبناء,
ويتلقون التعليم الرصين بتنسيق مع المدرسة.
وعليهم ألا يعتقدوا أن دروس الدعم خارج البيت 
قد تعفيهم من دورهم هذا.
وأن يعيدوا النظر فى نظام البيت 
ليصبح مناسبا لمساعدة الأبناء على حب القراءة,
والتشوق للكتابة 
والمشاركة فى وسائل المعرفة الجادة.
فبالله عليكم...كيف تريدون من التلميذ 
أن يميل إلى الكتب والمجلات والصحف,
وهو لم ير قط ورقة فى يد أبيه أو أمه, 
اللهم فاتورات الكهرباء والماء وغير ذلك.
عندما أطلق شاعر النيل حافظ ابراهيم صيحته المشهورة:
" الأم مدرسة"
لم يعارضه أحد...
ولكن يمكن أن نضيف بدون إحراج
أن الأب كذلك مدرسة تتكامل مع الأم المدرسة.
إن جل النزاعات التى تحصل بين البيت والمدرسة, 
بين الأب والمعلم,
أو بين الأم والمعلمة, 
هى بسبب الفهم الخاطئ أو الناقص أو الفاسد
للعلاقة التى يجب أن تتأسس وتبنى 
وتتوطد بين البيت والمدرسة
لحماية التلميذ من الإنحراف الأخلاقي أو المعرفي,
سيما فى هذا الزمان الذى أصبح يتكالب فيه مروجوا المخدرات,
وكل ما يدور فى فلك المخدرات 
على استقطاب التلاميذ وإبعادهم عن المسار الصحيح.
إن جمعيات آباء وأمهات وأولياء التلاميذ منتشرة, 
والحمد لله,
على طول البلاد وعرضها, وعلى الجهات الأربع.
ولكن كم هى الجمعيات ذات الفاعلية النافذة 
داخل المؤسسات التعليمية,
والمؤثرة بقوة فى نفوس التلاميذ؟
لعل القارئ الكريم يتفق معي على أن النسبة ضعيفة جدا,
والدال على هذا هو نسبة الحضور 
خلال الجمع العام السنوى, أو الإستثنائي.
أما إذا انتقلنا إلى التكوين, 
فسنلمس أن غالبية البيوت تترك الشان
للطالب أو الطالبة لاختيار المسار والمصير, 
وتنفض يديها من هذه المسألة الدقيقة.
ولا مجال للتعميم 
إذ أن هناك من يتابع مسلك ابنه أو بنته حذو القذة بالقذة.
إنما هم قلة, والنادر لا حكم له.
فعلى البيت أن يساعد أبنائه على حسن الإختيار, 
قدر المستطاع طبعا.
يجب الوعى بأن عملية التربية والتكوين تنطلق من البيت, 
منذ ولادة الرضيع,
وتمر بالمدرسة, خلال كل أسلاكها التعليمية,
الأولي ثم الإبتدائي والإعدادي فالثانوي والجامعي,
ليصل الطالب فى نهاية المطاف إلى المؤسسات الإنتاجية,
ويتم دمجه فى النسيج الإجتماعي الإقتصادي 
ليصبح هو الآخر قادرا على البذل والعطاء.
أنا لا أدعى أنني أتيت بما لم تأت به الأوائل,
لم أضف جديدا...لم أعرض حلولا...
إنما هو البوح بما يحمله الصدر 
من هموم وآلام تحز فى النفس.
فإن دل على شئ, فإنما يدل على الغيرة 
التى تدفع المرء إلى الرفع من شأن البلاد والعباد,
فلا يمكن للمجتمع, أى مجتمع, أن يتتحر من التخلف والتبعية,
إلا إذا وضع تخطيطا إستراتيجيا لبناء الإنسان القوى الأمين,
وشمر على سواعد الجد وعض على النواجذ لتحقيق ذلك,
متحديا كل العقبات, 
مصرا على إنجاز النجاح والفلاح, 
مهما كلفه ذلك من تضحيات.
حامد البشير المكي
 ابريل 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire