dimanche 20 août 2017

ليتني كنت شمعة لأضيئ وحدتك

ليتني كنت شمعة لأضئ وحدتك

لقد بلغت من العمر عتيا, واشتعل الرأس شيبا,
وكم ليلة مضيتها لا يجد رمشي للنوم سبيلا,
بل لايزداد إلا صحوا ويقول لدقات السهر هل من مزيد.
ومما يرفع من رغبتي فى السهر هو ذلك السكون 
الذي يخيم على الخلوة التى تحضنني 
كما تحضن الأم وحيدها بين يديها.
أترك بجانبي شمعة تحترق فرحا 
لأن الضوء الكهربائي معطل,
فلا يزعجها ولا يزعجني أنا كذلك.
أنا لا أتحمل الضوء الكهربائي 
عندما أريد أن أختلى بوحدتي فى خلوتي.
الضوء الكهربائي يشوش علي أفكاري 
ويبعثرها ويشتتها,
ويتركها أشلاء متناثرة هنا وهناك فى داخلي, 
وعلى جنبات خلوتي.
أما ضوء الشمعة, 
فهو قريب من مزاجي يتناغم معه ويناجيه,
ويتماشى معه يإيقاع هادئ 
مثل إيقاع النسمة التى تهب من الغرب,
عندما توشك الشمس الحمراء 
أن تغيب وراء النخيل.
ربطت علاقتي مع الشمعة منذ طفولتي الأولى.
لم يكن وقتذاك فى بيتنا كهرباء تمدنا بالضوء,
بل لم يكن فى الحارة التى كنا نسكنها 
لا كهرباء ولا ماء صالح للشرب,
ولا تصريف مياه ولا أزقة مبلطة.
كانت الحارة عبارة عن كتلة من الطوب 
تتخللها ثقب يقال لها أبواب,
ولا توجد نوافذ تطل على الأزقة.
الأعيان الذين كانوا يسكنون حارتنا 
وهم قلة قليلة جدا,
هم وحدهم الذين كانت لهم رياض فسيحة 
بداخلها أشجار وأزهار,
ونافورة يخرج منها الماء شلالات 
بصوت يبعث فى الوجدان نشوة وراحة.
كانت هذه الرياض تعرف ببابها الخارجي 
المقوس والمزخرف,
كانت توجد عادة بجانب هذا الباب دكانة 
يجلس عليها خصيصا البواب,
وكانت مهمة هذا الأخير حراسة الدار 
ومساعدة رب البيت على ركوب الدابة أو العربة
التى ستنقله إلى مقر وظيفته,
ويساعده كذلك على النزول عند رجوعه إلى البيت.
أما إذا أردت أن تمتع بصرك بالعمران الحديث 
الذى يشمل كل مظاهر التقدم والرقى ,
من كهرباء وماء صالح للشرب وتصريف مياه,
وأزقة وشوارع مبلطة على جنباتها مصابيح للإنارة
وتزينها الأشجار الوارفة الظلال.
إذا أردت أن تتمتع بهذه المناظر الجميلة,
وتسمح لنفسك بدخول الساحات البهيجة للإستجمام والراحة,
فعليك أن تذهب إلى المدينة الأوروبية,
أن تذهب إليها بخيالك فقط,
لأنها محرمة على السكان الأصليين, 
الهنود الحمر لشمال إفريقيا!!!
إلا إذا كنت أحد هؤلاء الخدم الذين يعملون سخريا بالنهار 
تحت سلطة المستوطنين,
وعليهم أن يغادروا المدينة الحديثة عند المساء,
هناك فريق آخر من الخدم يعمل ليلا فى الحانات والفنادق,
فهذا الفريق يأتى عند المساء ليقوم بعمله الليلي, 
ثم يغادر المدينة عند الفجر.
فالمدينة الأوروبية لا يسكنها إلا الإفرنجة 
الذين أتوا مع الجيش الإستعماري
لنهب الثروات وتسخير الشعوب.
000
وقتها كنت أسهر مع الشمعة التى كانت توقدها خالتي البتول,
تلك الخالة التى لعبت دورا كبيرا فى تنشئتي,
تلك الخالة التى كانت بمثابة المهد الذى أنام فى حضنه,
كلما كانت أمي فى حالة مرض,
وكانت أمي تعانى دوما من المرض 
لأسباب متعلقة بالولادة العسيرة,
أو بالحزن الطاحن بسبب فقدان أبنائها 
الذين اختطفتهم المنون
واحدا تلو الآخر فى السنوات الأولى من حياتهم.
تلك الخالة التى كانت تحملني إلى الكتاب 
وأنا فى طفولتي الأولى.
تلك الخالة التى كانت تحكى لى الحكايات الممتعة 
قبل أن أستلقى على ركبتها,
مستسلما للنوم... 
وكم مرة أستيقظ وأنا أصرخ خوفا من الغول
الذى يريد أن يلتهمني فى عمق نومي,
فكانت خالتي تهدئ من روعي 
وتضمني إلى صدرها الدافئ الرحب 
وتمسح على رأسي وتقول لي:
" هون عليك يا صغيري, 
لقد تعقبت الغول وطردته من البيت,
نم قرير العين!... نم يا حبيبي!..."
فأستسلم إلى النوم مرة أخرى 
وأنا واثق بأن خالتي قد قضت على الغول.
أستسلم وعلى محياي ابتسامة 
ملئها الطمأنينة والإرتياح,
لا أحرك جفنا حتى الصباح...
000
هل رأيت يا شمعتي كم كنت مرتبطا 
بشمعات مثلك أيام صباي؟
أنا أعلم أن عمرك قصير قصير جدا 
لا يساوى إلا عمر بضع فراشات على الأكثر
من بين تلك الفراشات اللواتى كانت تأتي من بعيد
أملا أن تأخذ من لهيبك قطعة صغيرة 
لتحملها إلى بيتها وتستدفئ بها.
الفراشات تحترق الواحدة تلو الأخرى,
هذا قدرها...
وأنت كذلك تذوبين...وتذوبين... 
كلما أعطيت من لهيبك كلما ذهب بعضك, 
واقترب أجلك.
وهذا قدرك أنت أيضا...
وددت لو استرجعت صباي 
وأصير شمعة مثلك,
أضيء بمهجتي بعض من الليالي 
التى كانت تسهر خلالها تلك الفتاة
التى عرفت أيام زهرة عمري 
وأنا وقتها ما زلت غضا غريرا.
كانت فتاة فى غاية الحسن والجمال...
كانت فى غاية النبل والطهارة...
كانت تحب الحياة...
لكن الحياة كانت لا تعير لها وزنا...
أصابها مرض منذ طفولتها, 
مرض قال عنه الأطباء أنه لن يفارقها.
لم يكن لها إخوة ولا أخوات, كانت وحيدة أبويها.
أنفق عليها أبوها الغالى والنفيس لعلها تشفى بإذن ربها
الذى قال فى حقه ابراهيم الخليل:" وإذا مرضت يشفين"
كان أبوها صديقا حميما لأبي,
وكانت أمها بمثابة أخت لأمي.
كان البيت الذى تسكنه مع أبويها 
مقابل بيتنا فى نفس الزقاق.
كنت أدخله بدون إذن, 
فكانت تستقبلني أمها بفائق الترحاب.
كان أبوها يتعامل معي معاملة الأب لإبنه.
كانت الفتاة رغم سقمها المزمن تحب القراءة,
متفتحة على فضاء المعرفة والعلم.
كنت كلما رجعت من المدرسة إلى بيتي, 
آخذ الإذن من أمي وأذهب عند خالتي زينب,
وخالتي زينب هى أم تلك الفتاة الحسناء 
التى لا يفارقها المرض لحظة واحدة,
ورغ ذلك لا تزداد إلا حسنا وجمالا وبهاء وسنى,
كانت تغالب المرض بتفاؤل عال وصبر صبور.
واسم هذه الفتاة بثينة.
كانت بثينة كلما أحست بقدومي 
تهتز فرحا وترقص وتغنى,
كانت تسألني كيف قضيت يومي فى المدرسة,
لأنها كانت لا تستطيع أن تذهب إلى المدرسة.
كنت أقوم بوظيفة المعلم 
فكنت أقرأ لها بعضا مما تلقيته فى مدرستي.
لم أكن بالطبع معلما ماهرا 
ولكن كنت متفانيا فى إسعاد بثينة.
كنت أعلم علم اليقين 
أنها كانت عطشى إلى المعرفة,
كنت أعلم أنها كانت فى حاجة إلى العلم 
مثل حاجتها إلى الهواء والماء والدواء.
عندما كنت أجالسها وأحادثها, 
ونحن بجانب الخالة زينب المنشغلة بآلتها 
التى تخيط بها الألبسة,
وبالمناسبة كانت الخالة زينب خياطة ماهرة 
لها شهرة عالية فى كل أرجاء الحارة
وما حولها من حارات أخرى حتى مشارف جامع الفنا.
فعندما كنت أقرأ لبثينة طرفا من رواية أو قصة,
أو درس نحو أو صرف أو بلاغة,
أو قصيدة شعرية لشوقي أو لحافظ,
كانت الخالة زينب تسمع ما أقول باهتمام 
وتدعو لي بالتوفيق والنجاح,
رغم أنها كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب.
كنت كلما رجعت من عند بثينة إلى البيت, 
أهرع إلى ركن من غرفة النوم
التى كنت أتقاسمها مع خالتي البتول,
لأن الغرفة الثانية كانت مخصصة لأبوي وأخي الرضيع.
فكنت آخذ قسطا من الخلوة لأسبح فى الذكريات 
التى قضيتها مع بثينة.
لآ أخفى سرا أنني كنت أميل ميلا غريبا لبثينة,
كنت أرتاح إليها أيما ارتياح,
كنت أحلم وقتها أن أكون زوجا لها فى المستقبل 
عندما أحصل على دراسة عالية
وتكوين يمكنني من مزاولة مهنة شريفة.
كنت أتصور وقتها أني قادر أن أحقق لها ما تتمناه,
وهو شفاؤها بإذن الله على يدي.
كنت أتصور أن الحب يحقق المعجزات.
وذات يوم, بعد رجوعي من المدرسة كالمعتاد,
دخلت إلى البيت, فلم أجد أهلي بداخله.
قلت مع نفسي لا يمكن أن تكون أمي 
خارج البيت فى هذا الوقت,
إلا عند خالتي زينب.
فلعل بثينة فى حالة خطيرة.
ذهبت إلى بيت خالتي زينب, 
فصدمت بالخبر الذى كاد يذهب بلبي,
لفظت بثينة أنفاسها الأخيرة مع أذان العصر.
لقد إنتقلت إلى البرزخ ولن أراك بعد يا حبيبتي بثينة.
منذ ذلك اليوم, أصبحت أميل كثيرا إلى العزلة,
فأصعد إلى السطح لأنى أجد فيه بغيتي, 
كنت أنقب فى باطني
عن الأوقات الجميلة التى عشتها مع بثينة...
وإذا أدركني الليل, وأنا ما زلت على سطح الدار, 
ويدأت النجوم تنتشر
فى كل أرجاء السماء المكسوة بالسواد,
كنت أبحث عن بثينة لعلها تمر كالنيزك الساطع...
منذ ذلك اليوم كذلك, أصبحت رفيق الشمعة, 
تؤنس وحدتي بل ووحشتي,
كم مرة أتخيل أن الشمعة التى تحترق أمامي...هى بثينتي,
000
حامد البشير المكي
فاتح شعبان المبارك 1431

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire