تأملات فى صنع القرار واتخاذه
الورقة الأولى
مقاربة تحسيسية
خلال حياتنا اليومية,
نتخذ قرارات عديدة دونما وعى منا
بأنها أنشطة دماغية
معقدة, تارة واعية إرادية
وتارة أخرى قد تبدو لاواعية لاإرادية
.
وهنا يحضرني قول الله
سبحانه وتعالى:
" ولقد خلقنا
الإنسان فى أحسن تقويم"
هذه القرارات البسيطة من
حيث أثرها على ذواتنا ومحيطنا
الطبيعي والإجتماعي, هى
كثيرة لا حصر لها, نمارسها
طيلة يقظتنا على مدار
عقارب الساعة, بدون انقطاع ولا توقف.
ونضرب أمثلة لتبسيط
الأفهام:
عندما أستيقظ من النوم
عند الفجر, وأعي ما بذاتي وما يحيط بي,
فمغادرتي للسرير عملية
مترتبة عن قرار اتخذته,
وكذلك ذهابي إلى الحمام لأتوضأ,
وكذلك تغيير ملابسي
واستعدادي للذهاب إلى المسجد,
للإلتحاق بالجماعة لأداء
صلاة الفجر.
كل هذه الأنشطة ناتجة عن
قرارات واعية تصدر مني,
وكونها تبدو بسيطة
وعادية يرجع إلى تكرارها على مر الأيام,
فبعضها يرافقني ربما منذ
طفولتي.
وكذلك الأمر بالنسبة
للسيارة مثلا,
عندما أفتح الباب, وأجلس على المقعد, خلف المقود,
وأعمل على تشغيل المحرك,
ثم أنطلق بالسيارة نحو الشارع.
إذا فكرت مليا فيما قمت
به من عمليات أثناء قيادتي للسيارة,
سأكتشف أنها سلسلة من
قرارات
مرتبطة بعضها بالبعض الآخر, ارتباطا منطقيا,
ناتجا عن أوامر مصدرها
الدماغ
الذى هو نفسه خاضع لسلطة العقل.
كل ما هناك أن مجموع
العمليات الضرورية لقيادة السيارة
تشكل نسقا منطقيا متكاملا,
تدربت من قبل على تنفيذه
وتكرار تنفيذه مئات المرات,
الى أن أصبحت عندي قيادة
السيارة سهلة ميسيرة
من حيث تنفيذ عملياتها المختلفة والمترابطة,
دون إخضاعها لأبسط
تفكيروكأنها لاشرطية لاواعية,
الأمر الذى يجعلني قادرا
على محادثة الراكب ذى الجنب,
أو مكالمة المتحدث عبر الأثير,
أو الإنشغال بقضية أمعن
فيها التفكير
دون أن تتأثر قيادة السيارة بهذا الأمر.
وكذلك العمليات التى
أقوم بها لممارسة عملي
فى المكتب أو المعمل أو الحقل,
أو العمليات التى أقوم
بها عند التسوق,
أو الذهاب الى أماكن أخرى لقضاء مآربي المتنوعة والمتعددة.
فكل الأنشطة اليومية
التى أقوم بها منذ اللحظة
التى أسترجع فيها وعيي بعد النوم,
الى اللحظة التى يغادرني
فيها وعيي وأستسلم للنوم,
كل هذه الأنشطة, بفعل التعود والتكرار
على مر الأيام , خرجت من
دائرة الشرط الإرادي,
الى فضاء العادة اللاشرطية,
وهذا من رحمة ربي,
لأن
هذه السلسلة من الأنشطة لاتكلفني جهدا مضنيا,
الأمر الذى يساعدني على
القيام بأنشطة أخرى
أكثر أهمية وأكبر إنتاجية.
إلا أنه لا بد من
الإشارة أن هذه الأنشطة التعودية,
رغم بساطتها ويسر تنفيذها,
لا تنفك أن تبقى داخل
دائرة المسؤولية
لما قد يترتب عليها من آثار سلبية, فى بعض الأحيان,
كأن تصطدم سيارتي بسيارة
أخرى أثناء قيادتي لها عبر الشارع.
فأنا إذن المسؤول عن
آثار كل الأفعال التى قمت بها,
أمام الله والقانون والناس,
ولا يشفع لي أنها أفعال
مصبوغة بالخطإ أو السهو والنسيان.
وللمضي قدما فى موضوع
صنع القرار,
سنترك جانبا هذه الأنشطة البسيطة جدا,
والتى, كما رأينا خلال
الطرح أعلاه, أصبحت بفعل التعود والتكرار,
تتماس مع فضاء اللاوعي
وتكاد تنخرط فى دائرته وسجله.
سنفتح إذا نافذة لنطل
منها على أنواع القرارات
التى تحتاج إلى تفكير وتقدير,
بل ربما إلى مراجعة
التفكير والتقدير,
حتى الوصول إلى مجموعة
من البدائل
نختار منها البديل الأنسب والأفضل
وهذا لحل مشكلة ما كانت
مطروحة من قبل
أو هى وليدة اللحظة فتفرض علينا بإلحاح
إيجاد الحل الناجع بل
الأنجع لحسم الأمر
لأن الحياة سيالة منسابة
لا تقبل الركوض او
التراجع او التردد,
والدنيا إما أن تركبها
أو تركبك,
وإذا ركبتك فأنت دابتها
الذلول
وستقودك إلى حيث هى تشاء,
وإذا أردت أن تركبها
وأصررت على ذلك,
فعليك أن تكون فارسا مغوارا,
تواجه الشدائد وأنت على
صهوتها.
وللتنبيه موضوع صنع
القرار, واتخاذه,
والقيام بتنفيذه, وتقييم نتائجه
وإصلاح الخلل المحتمل
كمونه بين طياته ووراء سطوره,
بغية تحقيق الأهداف
المتوخاة بدقة ونجاعة,
كل هذا المسار لا يقوم
به إلا الإنسان العاقل
الرشيد الحكيم الواعى بالمسؤوليات
الملقاة على عاتقه
المتفاني فى معالجتها بكل أمانة وإخلاص.
أما الحمقى والمجانين,
فالتكليف مرفوع عنهم,
فلا يعقل أن تسند إليهم مسؤولية ما
مهما صغر شأنها ولو
تعلقت بذواتهم وحدها
لا تتعداها إلى غيرهم.
والخطر الصادر من هؤلاء
قد يكون أقل وطأة
من الأخطار الناجمة عن إسناد
الأمور إلى غير أهلها,
تلك الفئة من الناس, إن على المستوى المحلي
أو على المستوى القومي,
وصولا إلى المستوى
العالمي,
التى تحسبها من خيرة العقلاء الراشدين,
إذا أنت رأيتها تعجبك
أجسامها,
وإذا سمعت إلى قولها تسحرك بمعسول وعودها,
وإذا بها تفاجئك بتصرفات
كارثية تقضى على الحرث والنسل,
وتدمر الحضارات وتبيد
الثقافات.
هذه الفئة تفسد فى الأرض
وتدعى أنها تحسن صنعا.
هذه الفئة قال فى شأنها
الباري سبحانه وتعالى:
" الذين
ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه, ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل,
ويفسدون فى الأرض,
أولائك هم الخاسرون"
فصنع القرار يحتاج إلى
خبرة ودراية,
واتخاذ القرار يحتاج بالآكد إلى حكمة وبصيرة,
تستفيد من عبر الماضى,
وتستبصر أحداث الحاضر,
وتستشرف توقعات المستقبل:
" ومن أوتى
الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا".
ومن الحكمة أن تستند
سلطة القرار
إلى هيأة مكونة من عقلاء حكماء,
يشهد لهم بالعدالة
والثقة ونكران الذات,
لا يخافون فى الله لومة
لائم.
فعندما قال أبو بكر
الصديق, رضى الله عنه,
لما بويع خليفة لرسول الله الأكرم:
".... إذا
أصبت فأعينوني, وإذا أخطأت فقوموني..."
قال قائل, شاهرا
سيفه:" والله لنقومنك بهذا"
فسلطة اتخاذ القرار لا
تكتفى بالإستئناس
بالمشورة المعلمة فقط,
ولكن تستند على المشورة
الملزمة
لأنها تمخضت عن اجتهاد جماعي,
منبثق عن عقول حكيمة
صقلتها المحن وصهرتها الفتن,
سيما إذا كان الأمر
يتعلق بالشأن الإستراتيجي
الذى يغطى مداه عقودا كثيرة,
والذى لا يتحمل ارتكاب
الأخطاء مهما صغرت,
لأن النتائج الوخيمة المترتبة عنها قد تعصف بالبلاد,
وتدمر آمال العباد,
وتقصم ظهر الأجيال الصاعدة بدون رحمة.
وإن تاريخ الأمم بوجه
عام,
وتاريخ الأمة الإسلامية بوجه خاص,
لحافل بشتى الدروس
والعبر,
المترتبة على قرارات اتخذها أولياء الأمور,
إما عن فهم عميق
للمستجدات ومجريات الأمور,
وخبرة ودراية لما يجب
فعله وفق تخطيط محكم,
وإرادة صلبة لتحقيق
النصر,
وكانت النتيجة أن دونهم
التاريخ فى سجله الذهبي,
وذكرتهم وما زالت تذكرهم
الأجيال المتعاقبة
بكامل الفخر والإعتزاز,
وإما أن القرارات كانت
وليدة الإنفعال الأهوج,
أو السطحية البليدة,
والتصور الأحول أو
الأعور لمجريات الأمور,
والتقييم الفاسد
للمنطلقات والأدوات والتحركات
التى لم تستند إلى أدنى منطق
لأدارة النزاع أو الصراع
أو الأزمة,
فكانت النتيجة أن أتت
الرياح بما لا تشتهى السفن.
وبالمناسبة متى كانت
الرياح تجري بما تشتهى السفن,
فالصواب أن تسبح السفن
رغم أنف الرياح,
وذلك بحسن إدارة الأشرعة
وتوجيهها
الوجهة التى تجعل الرياح تدفعها نحو الهدف المنشود.
وما دمنا فى إطار هذه
الورقة التحسيسية,
فلنضرب بعض الأمثلة على ذلك:
أولا تعلمنا السيرة
النبوية العطرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم,
منذ أن نزل من غار حراء
إلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى,
قد أحسن تدبير أمور أمته
منذ تأسيس النواة الأولى
بمكة إلى إقامة الدولة بالمدينة,
كما أنه أحسن إدارة
الصراع بين الدين الجديد
وقوى الكفر والعناد,
حيث كان الخط البياني
للإنتصارات تصاعديا.
ثانيا يعلمنا تاريخ
الخلافة الراشدة
الإنتشار الهائل والرائع لدولة الإسلام,
شرقا وغربا, شمالا
وجنوبا,
فكان الناس يدخلون فى دين الله أفواجا.
ورب قائل أن الخلافة
الراشدة زلزلتها فتن ومحن,
نعم! هذا صحيح,
ولكن
الله هيأ الأسباب لعواصم تغلبت بها الأمة على القواصم.
ولنطوى التاريخ طى السجل
لنعطى أمثلة أخرى
من تاريخ الغرب الإسلامي,
فيوسف بن تاشفين, رحمه
الله, أدار معركة الزلاقة بمهارة
فانتصر على الصليبيين بالأندلس.
وكذلك أبو يعقوب
المنصور, رحمه الله, استطاع أن يهزم الصليبيين,
فى معركة الأرك, شر
هزيمة,
وذلك بقوة عزيمته وحسن تدبيره.
ونختم بمعركة وادي
المخازن,
حيث تحالفت خمس دول غربية, بقيادة ملك البرتغال,
وذلك من أجل القضاء على
الوجود الإسلامي بالمغرب الأقصى,
ولكن حنكة أبي مروان عبد
الملك السعدي
ودرايته بالفنون الحربية,
مكنته بفضل الله تعالى
أن يهزم الغزاة
رغم جيوشهم الجرارة وآلياتهم الفتاكة.
إن صنع القرار واتخاذه
وتنفيذه
مراحل مترابطة ومتشابكة ومتداخلة بعضها فى بعض,
وتتطلب كل خطوة من
خطواتها المعطيات الكافية
لدراستها وسبر خباياها,
واحتواء مناورات الخصم
لإبطالها فى الوقت المناسب,
بالقرار المناسب,
سواء أكان الخصم تلك
النفس العجولة
التى لا ترى أبعد من أنفها,
أو ذاك الخصم المتعدد
الأبعاد, والمنتشر الذروع,
والذى يتربص بك الدوائر,
ويريد أن يبطش بك من عدة جهات, من حيث لا تحتسب.
وأخطر الأعداء هو ذاك
الذى تحسن به الظن وتكن له الولاء,
وأنت لا تدرى أنه ألذ
الخصام.
فلا تلومن إلا نفسك لأنك
تصرفت بسذاجة وغباء.
حامد البشير المكي
فبرايل 2011
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire