الواقعية والإنطباعية
أتذكر أنني لما لقيتها لأول مرة
كان الفصل شتاء
وكانت السماء ممطرة
وكان البرد قارسا
وكانت الطريق شبه خالية من المارة
إلا من النزر القليل الذى خرج من بيته
رغم أنفه لقضاء مآرب جد ضرورية
لا فكاك له منها
مثل الذهاب إلى المستشفى للعلاج
أو إلى الصيدلية لشراء
الدواء,
أو إلى الدكاكين والمتاجر
لإقتناء ضروريات الحياة
الأهلية,
أو إلى الدوائر الإدارية أو القضائية أو الأمنية وغيرها
لتصفية ملفات عالقة أو فتح ملفات جديدة,
أو لمرافقة الأبناء الصغار إلى المدرسة,
أو للإلتحاق بالمحطة الطرقية أومحطة القطار
أو المطار
للسفر خارج المدينة.
وإن أنس فلا أنسى الإلتحاق بمقرات العمل
الذى بدونه ليس
هناك إنتاج ولا استهلاك.
وفى مثل هذا اليوم الماطر تنطلى القتامة على كل شئ,
وتنشر جلبابها على كل الجدران والواجهات
فتراها مكفهرة
مزمجرة كالذئاب فى الغاب,
وتهجم على الأشجار فتحيلها مطأطأة الأغصان حزينة,
فيؤثر حزنها على الطيور التى تبقى قابعة فى أعشاشها .
وحتى آلات النقل تشعرك أنها تعانى من السعال المعدى,
تنفث الغازات السامة التى سرعان ما تختلط بماء المطر,
فتسيل على الطرقات وجنباتها كالنفط المذاب.
فعلى عكس هذا المنظر الذى تشمئز منه النفوس,
حينما تكون السماء صحوة,
وتكون الشمس مشعة,
تلمس العين أصالة الألوان وحدود الأشكال,
وتلحظ بسهولة مناطق الظل ومناطق الضوء,
الأمر الذى أبهر الفنان الغربي,
عندما يتأتى له أن يزور الغرب الإسلامي
خلال القرن
التاسع عشر,
ويتمكن من التجوال داخل المدن والقرى
وعلى طول
الشواطئ ووسط الحقول والبساتين,
وقد أتى إما ضيفا أو سائحا أو جاسوسا بمدينة طنجة,
أوتلمسان, أو تونس أوغيرها,
هذا الفنان الذى اعتاد أن لا يلتقط من المحيط الطبيعي
والعمراني
الذى نشأ فيه وترعرع, إلا قتامة الألوان والأشكال,
وهشاشة الفواصل بين الضوء الباهت والظل البارد,
فى المقابل, عندما اصتدمت عيناه بفتوة الضوء,
وعنفوان الظل, عبر كل الفضاءات الجديدة التى زارها,
واندهش أمام عنف الإنتقال من مناطق الضوء إلى مناطق
الظل,
لم يستطع أن يبقى مشدودا إلى عالمه الأصلي,
بل أطلق العنان لريشته لترتوى من هذه المشاهد
الجديدة,
والجميلة, والفاتنة, والرائعة,
التى تحدثها التناقضات بين الظل والضوء,
إثر حركة الشمس
منذ الشروق حتى الغروب.
الأمر الذى دفعه,بعد تأقلمه التدريجي مع هذا الفضاء
الجديد,
إلى تأسيس مدرسة تشكيلية
قائمة بذاتها مستقلة عما سواها من مدارس سبقتها
ومع تداول الأيام أصبحت اللوحة الإنطباعية
تزاحم فى المعارض والأسواق الفنية,
اللوحة الواقعية التى تربعت على قلوب عشاق الفن
التشكيلي
لمدة قرون من الزمن, بل وصارعتها فصرعتها بدون رجعة.
ثم بالله عليك,
ما علاقة هذا الموضوع بتلك المرأة التى
رأيت
صباح ذاك اليوم الذى لم يكف فيه المطر من الهطول بغزارة.
رأيتها تمشى حافية القدمين,
تفقد توازنها بين الحين والآخر,
على جسدها أسمال
لو وصفتها بالرثة لما كنت دقيقا.
تحمل بيدها اليمنى التى ترتعش من لسعة البرد
كيسا لعل فيه على ما أظن أسمال أخرى
هى كل ما تملكه من
حطام هذه الدنيا.
كنت وقتها أمشى على حافة الطريق
متوجها إلى السوق لأشترى بعض الضروريات للبيت.
كانت تلك المرأة السيئة الحال تريد
أن تجتاز الطريق إلى
الضفة الأخرى.
لكنها كانت تتردد على فعل ذلك,
لا لأن هناك خطر يهددها
فحركة المرور فى تلك الطريق,
وفى ذلك الوقت,
كانت هادئة نسبيا, إلا من بعض الدراجات النارية
التى يطلق لها سائقوها العنان فترتفع سرعتها,
الأمر الذى قد يؤدى الى ما لا تحمد عقباه.
وإنما المسكينة من شدة ضعفها لا تقوى رجلاها على حملها.
وفجأة...
ودونما شعور مني,
أخذت بيدها اليسرى,
ومن غير أن أستأذنها,
حاولت مساعدتها على الإجتياز.
وفى وسط الطريق,
خار ما تبقى من قواها
وكأنها فقدت
وعيها,
ولكي لا تسقط على الأرض, جمعت أشلاءها بين يدي,
ورفعتها بقوة إلى صدري
كما يفعل الإبن البار بأمه
العجوز,
ونقلتها إلى الجهة الأخرى.
لم أسمع لها صوتا يذكر,
سوى فحيح أنفاسها التى تتصاعد بصعوبة
من فمها المفتوح على
مصراعيه.
تركتها تستريح على جانب الطريق المبلل بالمطر
الذى
اختلط بالأتربة والأوساخ.
فمدينتنا مشهورة بما يضر ولا يسر,
فى هذا المجال ومجالات أخرى.
ففى مجال نظافة البيئة وسلامة المواطن,
ترى بأم عينك العجب العجاب
من حيث تناثر الأزبال وشتاتها, هنا وهناك.
فترى بعض المارة, من مختلف الأعمار,
من يمشي على قدميه, ومن يركب على دراجة هوائية,
أو دراجة نارية, أو سيارة أو شاحنة,
يلقى بوابل من الفضلات, والنفايات على أمنا الأرض,
وهو يعتقد جازما أن جمع ما يلقى به بسخاء,
يقع على عاتق
المصالح البلدية.
فما بالك عن الحيوانات وما أدراك,
سيما تلك التى تجر
العربات السياحية,
تلقى بأبولها وأبعارها,
وكأنها تشعر بحصانة تحميها من
أى نهى أو ردع,
فترسم بذلك على سطح الطريق
التى لم يبق من تبليطها إلا
أثر بعد عين,
لوحات تشكيلية سريالية,
ما عليك إلا أن تتفضل وتلتقط لها صورا رقمية,
لتنشرها عبر الشبكات العنكبوتية,
فتكسب لنفسك شهرة فى عالم التصوير...
لكن حذار من
التزوير.
رمقت بالقرب مني دكانا فوق بابه سترة من الثوب المقوى
يمنع المطر من الإختراق ويحمى البضائع من البلل.
فجمعت شتات العجوز بين يدي
وذهبت بها نحو ذلك الدكان
لنحتمىى
تحت غطائه من هجمة المطر.
فما إن وضعت العجوز المسكينة بجانب باب الدكان,
حتى صاح صاحبه بأعلى صوته المزعج:
" إياك أن تتركها على بابي وتفر...
ياهذا
فأنا لا أريد مشاكل مع السلطة"
لم أقم وزنا لتصرفه الشائن هذا ولكن قلت له:
" أعطني علبة لبن وفطيرا"
ثم مددت له ورقة مالية.
أخذها دون أن يلفظ بكلمة وكأنه ابتلع لسانه.
ثم أتى من داخل الدكان بما طلبت.
جلست بجانب العجوز
وناولتها برفق شيئا من اللبن والخبز
لتسد به رمقها
لأن الجوع قد غزاها على ما يبدو منذ أيام.
شربت كل لبن العلبة وأكلت كل فطيرة الخبز.
فسمعت صوتها لأول مرة
إذ قالت بصوت ضعيف خافت:
" الحمد لله..." ثلاثا..."
اقترب مني صاحب الدكان, وانحنى وقال:
" سيدى...أنا لست قاسي القلب,
فأنا
مسلم أخاف الله...
إنما أخاف كذلك أن أحشر فى قضية
لا ناقة لي فيها ولا
جمل"
ثم أضاف:
" لي بيت خلف الدكان أسكنه
أنا وزوجتي
وبناتي الثلاثة,
فأرجوك...
أريد أن أشاطرك هذا العمل الخيري الذى تقوم
به"
فأجبته فى الحال:
" فهمت قصدك...جزاك الله خيرا..."
فنادى على بناته ليحملن العجوز إلى بيته,
وقال لهن أن يساهمن فى سبيل الله
بغسل العجوز وتنظيفها
وتعطيرها,
ثم ستر عورتها بلباس يرجع لها كرامتها.
فقلت له:
" إن شئت... أعطيتك مالا فى مقابل هذا
العمل"
فرد علي مغاضبا:
" ليست المسألة بيع وشراء يا سيدي,
أرجو من البارى سبحانه وتعالى أن يتقبل مني "
فأجبته:
" عفوا إن أسأت الظن بك"
تساءلت مع نفسي:
" ما الذى أوصل هذه المرأة العجوز
المسكينة إلى هذه الحال
من البؤس والحرمان وفقدان الكرامة؟
أليس لها أقارب؟...
أليس لها جيران؟...
ثم أين هو التكافل الإجتماعي؟..."
ستجد دائما من عنده الأجوبة الجاهزة
ليجيبك بلسان ذلق:
" أليس فى البلد جمعيات ومؤسسات
خاصة
بهذا الشأن الإجتماعي؟"
نعم هناك جمعيات ومؤسسات كما قلت,
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت,
ولكن أين مساهمتك أنت
فى مجال البذل والعطاء؟"
حامد البشير المكي
فبراير 2011
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire