الإبداع كما أتصوره
الجزء الثاني
فى الجزء الأول من
"الإبداع كما
أتصوره"
تطرقنا إلى الإبداع العمراني,
أو ما يعرف كذلك بالإبداع المدني,
وهو الجانب المادي للحضارة,
الذى تتجلى مظاهره فى تخطيط المدن,
وتحصينها بالأسوار والحصون
والقلاع,
ومدها بالمياه العذبة,
وتنقيتها من المياه الآسنة,
وربطها بالطرق المعبدة
مع الجهات الأخرى,
وتزويدها بالشبكة الكهربائية,
وبالمواصلات السلكية واللاسلكية.
وتتجلى كذلك مظاهر الإبداع
العمراني فى بناء المنازل
ودور العبادة والمدارس
والجامعات,
والمتاحف ودور الثقافة
والفنون,
والمراكز الإدارية والأمنية والدفاعية,
والمراكز التجارية والحدائق
والساحات العمومية.
ومظاهر أخرى لا تعد ولا تحصى
مما من شأنه تحقيق
العيش الكريم والإستقرار والرفاهية,
مثل المصانع والموانئ
والمطارات والمحطات الطرقية والحديدية,
ومراكز البحث العلمي, وقواعد
غزو الفضاء.
وكل هذه المظاهر العمرانية
تبرز مكانة الدولة
التى أنجزتها عقول
أبنائها وسواعدهم,
لا ما يسمى زورا وجورا
استيراد التكنولوجيا الحديثة من الدول المتقدمة,
التى سرعان ما تستغل
الفرصة للتوغل والتغول,
جاعلة من مساعداتها كما
تسميها حصان طروادة,
للإستعمار الإقتصادي والغزو
الثقافي.
000
فى هذا الجزء من موضوع
"الإبداع كما أتصوره",
سوف نتطرق إلى الثقافة
التى تشكل الوجه الثانى للحضارة.
فكما أن العمران يلبى رغبات
الناس وحاجاتهم المادية,
فإن الثقافة تلبي رغباتهم
وحاجاتهم الروحية
والوجدانية والنفسية والعقلية.
وكما أن العمران يحتاج إلى
إبداع,
بل إلى إبداع الإبداع,
كما رأينا فى الجزء
الأول من هذا العرض,
ليترك أثره الجميل والطيب فى الإنسان,
فردا وأسرة وجماعة وشعب,
فيحفزها على العمل البناء
والعطاء الذؤوب,
فإن الثقافة بمفهومها الواسع
الذى يشمل كل الأنشطة الإنسانية الغير مادية,
من فنون وآداب وعلوم وفكر
فلسفي وديني وسياسي وغيره,
وترجمة هذا الفكر إلى أنشطة
على أرض الواقع,
كإدارة وتدبير وحكم
وقضاء وغيرها,
تقاس أى الثقافة بمدى
فاعليتها على تحفيز أفراد المجتمع
للرفع من هيبة بلدهم
بين الدول المتنافسة على كرسي
الهيمنة العالمية.
الثقافة والمدنية هما
الركيزتان لكل حضارة.
فلا يمكن للمدنية أن تشيد فى
غياب الثقافة,
كما أن الثقافة لا قيمة لها
إلم توظف لخدمة المدنية.
وجدلية الثقافة مع المدنية هى
التى تصنع الحضارة وتطورها وتجددها.
فهى تشبه جدلية النظرية والتطبيق,
تبقى فى حالة حركية دائمة
وذائبة,
ولوجا فى ذات بعضها البعض,
وخروجا يظن الجاهل أنه
انفصال,
ولكن هو مجرد تفاعل عن بعد,
لنفض الغبار الذى يلصق بهما
بسبب الغفلة والكسل.
ومن ناحية أخرى, علينا أن
نعلم أن من وراء كل حضارة,
عقيدة تكون بمثابة الروح
للجسد.
فكل حضارة لا تنطلق من عقيدة
أبنائها,
تخرج من رحم هذه الحياة
الدنيا,
خلقا مشوها ضعيفا هزيلا,
يقف على قدميه بصعوبة مؤلمة,
لا يقدر على النهوض إلا
بمساعدة الغير,
ثم سرعان ما ينهار وتدوسه
أقدام الدينزورات.
إن الحضارة الإسلامية
ما كانت أن ترى النور,
لولا العقيدة الإسلامية
التى تلقاها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم,
فى غار حيراء,
عندما نزل عليه
الروح الأمين, جبرائيل عليه السلام,
وبلغه
رسالة ربه, رب العزة والجبروت.
فالحضارة الإسلامية
استمدت روحها من الإسلام,
هذا الدين القيم الذى اختاره
الله جل علاه
لإخراج البشرية من الظلمات
إلى النور.
ولذلك كانت الحضارة الإسلامية
وستبقى نسيجا منفردا
لا شبيه له لأن الإسلام هو الدين الوحيد
الذي ارتضاه الله لعباده.
وإن من المضحك المبكى فى آن
أن نجد من بني جلدتنا
من يسعى لإبعاد هذه
العقيدة السمحة, عن معترك الحياة,
ظنا منه أن الدين أفيون
الشعوب, أو هكذا علموه,
وظنا منه كذلك أن الخروج من
ربقة التخلف
لا يمكن إلا بالتحرر من الدين.
وهل الدولة العبرية, على سبيل
المثال,
شقت طريقها بإقصاء
العقيدة اليهودية عن مناهجها التربوية؟
بل عندما نحاول تفكيك الحضارة
الغربية لإستكناه أسرارها,
نجد أنها مبنية على ثالوث
عجيب متساوى الأضلاع:
1_الأساطير اليونانية الرومانية
بكل تجلياتها الوثنية,
2_ الديانة المسيحية
المتداخلة مع الديانة اليهودية فى كل طقوسها,
3_ الفكر الحر ووليدته
العلمانية الحاضرة بقوة
فى السياسة والإقتصاد والإجتماع.
فهذا الثالوث استطاع أن يجعل
من أضلاعه الثلاثة,
رافعة للحضارة الغربية التى
ما زالت تحظى
بانبهار الأغيار عبر العالم.
رغم أنها تدفع الفرد أن يزداد
فردانية,
حيث أنه من المسلم به جدا
أن
يتنكر لرحمه, لأبيه أو لأمه,
لزوجه أو لبنيه,
لا يهمه إلا
أن ينجو بنفسه,
فى هذا العالم المتلاطم الأمواج.
إن الفن الذى يشجع شرائح
المجتمع على الإباحية,
وتفشى الرذيلة وتعاطى
المخدرات
والدفع بالشباب بل وحتى الأطفال
إلى التخلى عن الكرامة
والتنكر للهوية,
لا يمكن أن يصمد أمام
الإختبار والتمحيص,
إنه مجرد أوهام وأباطيل
ومغالطات,
يروج لها سحرة فرعون لتخدير
الجماهير وتجهيل الشعوب,
لتبقى مطاطة الوعى يعبث بها
الوهن كيف يشاء.
وكذلك الأدب الذى لا يسعى إلى
زرع الهمة فى القلوب,
ولا يعمل على تقوية العزائم,
ولا يدفع الفرد إلى المساهمة فى بناء صرح الأمة,
لايمكن أن يحسب على الآداب
الرفيعة السامية
التى تغرس فى النفوس الأخلاق
الفضيلة والشيم الكريمة.
وكذلك العلوم التى لا تصنع من
حامليها إلا مجرد روبوهات
تندمج تحت أية راية فى سبيل
المال والشهرة,
فتراها تحصل على شهادات عليا
من أكبر الجامعات وأشهرها,
وتنخرط فى أعتى مراكز البحث
العلمى,
لا يهمها إن كانت هذه
الدراسات والبحوث
تصب مراميها فى استغلال
الشعوب المتخلفة,
وتكريس الهيمنة عليها من طرف
الدول الإمبريالية.
وأخيرا نعتبر أن الفكر من
أخطر الأدوات الغير مادية على البشرية.
إن من الأفكار ما هو نافع
ومنها ما هو ضار.
إن الأفكار السليمة التى
ترتكز على المبادئ الإنسانية والقيم النبيلة
هى وحدها التى تبنى ولا تهدم,
هى وحدها التى تصمد أمام
المحك
لأنها تفتح الأبصار وتنير البصائر,
هى وحدها التى تبقى على
إنسانية الإنسان
و لا تمسخه كلبا إن تحمل عليه
يلهث, وإن تتركه يلهث,
أو حمارا لا يعى أنه يحمل
أسفارا قيمة,
أو خنزيرا يتمرغ فى
الأوحال, ولا يغار على أهله.
أما الأفكار المريضة فهى تسعى
إلى عكس ذلك تماما,
ولا يسعها إلا نفث السموم فى
شرايين المجتمع
فتحيله جثة ضعيفة هزيلة,
تصنع منه طوابير الجوعى
والمرضى
أمام منظمات الإغاثة الدولية وغير الدولية,
فى انتظار أن يتصدق عليها
بلقمة العيش المذلة.
هناك نوع ثالث من الأفكار,
وهى الأفكار القاتلة.
وما الفرق بين الأفكار
المريضة والأفكار القاتلة؟
لقد مررنا على الأفكار
المريضة بعجالة فيما سبق.
أما الأفكار القاتلة فهى تلك
التى تنبع من التصورات الخاطئة,
والمعتقدات الباطلة,
فتصنع التمييز بكل أطيافه:
1_التمييز الجنسي الذى
يجعل من الذكر طاغوتا على بنات حواء,
ويرى أن ذكوريته كافية للتسلط
على الجنس الآخر,
له كل الحقوق حتى حق الموت فى
بعض الحالات.
2_ التمييز العرقي الذى يجعل
من عرق واحد
يعتقد أنه الأسمى والأعلى فى الأرض,
فيعمل على أن يكون السيد
وباقي الشعوب مجرد أرقام فى سجلات ثروة الأسياد,
كما كانت مثلا تتصرف به روما
أيام عنفوان شبابها وذروة عزها,
روما التى ما زالت مصدر إلهام
للغرب المتغطرس حتى أيام الله هذه,
وما تزال حسب اعتقاده القاعدة
الصلبة والرئيسة
لصنع استراتيجيات
الهيمنة فى العالم.
3_ التمييز الطبقي الذى
يجعل من بني آدم
من هو شريف ومن هو ضعيف.
فميزان الشرف عندهم هو المال
والجاه.
أما التقوى فلا تساوى قطميرا
ولا فتيلا.
4_ التمييز العلمى الذى يجعل
من بعض العلماء
ينظر من فوق إلى باقى أهل الدنيا,
فهو فوق الدنيا لا ينتمى إلى
أهلها الجاهلين حسب ظنه,
الحقيرين حسب حكمه.
إن الإبداعات الفنية والأدبية
والعلمية والفكرية لا يمكن أن تكون كذلك
إلا إذا كانت تتسم بالصدق فى
النوايا, والنبل فى المقاصد,
والموضوعية فى المناهج,
والفاعلية فى الأدوات والوسائط.
والعكس قد يؤدى بنا إلى الظن
أن إبليس مبدع!؟!
والله سبحانه وتعالى يقول:
" وإذ قلنا للملائكة
اسجدوا لآدم فسجدوا
إلا ابليس أبى واستكبر وكان
من الكافرين"
البقرة آية 31
حامد البشير المكي
يونيه 2011
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire