lundi 21 août 2017

ظاهرة الموبايل

ظاهرة الموبايل

واقعنا المعاصر لا يبشر بخير.
ومن بين البراهين التى تشهد على هذه الحقيقة,
ما نشاهده فى شوارعنا وأزقتنا.
إنها الفوضى العارمة التى تتجلى فى عدم احترام قانون السير.
فعندما تغادر بيتك للذهاب الى مكان ما فى ناحية من نواحى المدينة,
فعليك أن تكون على وضوء, وتقرأ دعاء الخروج من البيت,
وأن يبقى لسانك رطبا بلفظ " يا لطيف"
لأنك ستواجه أخطارا تهاجمك من كل جهة,
من بين يديك ومن خلفك, 
ومن جانبك الأيمن ومن جانبك الأيسر.
فكن راجلا أو راكبا على دراجة هوائية أو نارية,
أو على سيارة أو شاحنة أو حافلة,
فأنت لست فى مأمن من مكروه قد يصيبك فى أية لحظة.
فخذ مثلا ظاهرة الهاتف الجوال, 
كواحدة من ظواهر شتى,
تعج فى الشوارع وتموج فيها.
فهناك من يمشي فى الشارع, 
وهو واضع هاتفه الجوال,
إن على أذنه اليمنى أو على أذنه اليسرى,
يتكلم بصوت خافت أو صوت عال, 
غير آبه بما يدور حوله,
يسرع الخطى تارة, 
ويتمهل فى مشيه تارة أخرى,
يرفع رأسه الى السماء, بين الفينة والفينة,
ويخفضه أحيانا وكأنه يبحث عن شئ ضاع منه,
يحرك فى الهواء اليد التى لا تحمل الهاتف 
وكأنه يصدر أوامر أو إرشادات
الى الطرف المخاطب الذى لا تراه العين.
وربما شاهدته ينتقل من ضفة الشارع الى الضفة المقابل لها,
وهو لا يكثرت بما قد يتعرض له من مخاطر حركة السير,
فحركة المرور تستوجب الحذر والتأنى 
قبل الإنتقال من رصيف الى آخر,
وتتطلب احترام قانون السير 
كيلا يحصل ما لا تحمد عقباه.
ذات مرة شاهدت رجلا راجلا يمشى على الرصيف,
وهاتفه الجوال سجين بين كفه وأذنه اليمينيين,
يتكلم بأعلى صوته وهو فى حالة غضب مفرطة,
يتطاير شرر الغضب من عينيه,
ويده اليسرى كأنها السيف البتار, 
تهدد المخاطب بالويل والوعيد,
وإذا بصاحبنا يرتطم رأسه بعمود من أعمدة الإنارة 
التى توجد على الرصيف,
وإذا بالدم ينهمر من هامته على وجهه 
وعلى هاتفه الجوال,
ودونما شعور, 
يرمى بالهاتف, 
ويمرر يده على وجهه ليتحسس ما جرى,
ودونما وعى كذلك, 
يهوى إلى الأرض, 
ليتكئ على العمود الكهربائي,
لعله يلتقط أنفاسه, 
وهو فى حالة من الذعر تدعو إلى الشفقة والسخرية فى أن.
إن هذا الإفراط فى استعمال الهاتف الجوال, 
من طرف المارة,
فى وقت غير مناسب, 
وفى مكان غير مناسب كذلك,
وطيلة مدة زمنية مفرطة, 
وفى انقطاع تام عن العالم الخارجي,
لهى ظاهرة من ظواهر العصر الذى نعيش فيه,
فرضت على مجتمعاتنا التى وصفوها بالعالم الثالث, 
أثناء الحرب الباردة
, بين العالم الليبرالي من جهة, 
والعالم الإشتراكي من جهة أخرى,
ثم نعتوها بعد ذلك بالدول الفقيرة, 
والمتخلفة ثم النامية, 
أو فى طريق النمو,
  وأخيرا يشار اليها جملة ببلدان الجنوب,
فى مقابلة مع بلدان الشمال, 
أو الدول الغنية التى تنعم
بالتقدم الإجتماعي والإقتصادي والسياسي,
والتمكن الصناعي والعلمى والتكنولوجي,
وما يواكب هذا وذاك من إنتاج ثقافي وفكري وحضاري.
فمجتمعاتنا هذه لم تكن مؤهلة لتواكب ركب المعاصرة والمدنية,
وما زالت تتعثر فى أوحال الجهل والتخلف,
لأسباب عديدة ومعروفة لا يسمح الوقت للتوسع فى شرحها,
علما بأن هناك دراسات وأبحاث عالجت أحوال البلدان المتخلفة,
بالتنقيب والتحليل والنقد, 
بل وطرح حلول للخروج من النفق المظلم.
ولأن دار لقمان ما زالت على حالها, 
بل ما يطرأ عليها من تغييرات يدسيها إلى الأسوأ,
فكلما قذفنا الشمال بمنتجاته التى لا حصر لها كما ونوعا,
فى تبادل تجاري غير متكافئ, 
يزداد فيه غنى وثراء,
ويزداد عالم الجنوب فقرا وعوزا,
فى عملية استفزازية تسمى كذبا وزورا 
أنها نقل التكنولوجيا الى الجنوب,
وما هى إلا عملية تخلص 
من الفائض الإنتاجي لصناعات الشمال,
وفى غالب الأحيان, 
تخلص من النفايات التكنولوجية, 
من شتى الأنواع والأشكال, 
على كل الأصعدة.
ومن بين تلك النفايات, 
الهاتف الجوال الذى يدر على الشركات التى تصدره, 
والتى تستورده,
وتسوقه وتروج له, 
أرباحا هائلة لا تخطر على بال البسطاء من الناس.
إنها ظواهر أفرزها اصطدامنا 
بعجلة التقدم العلمي والتكنولوجي السريع,
الوارد من الشمال والذى يداهمنا بضغط هائل مريع,
لا يترك لنا فرصة الإستيعاب والفهم, 
وحسن الملائمة مع تربتنا الإجتماعية
التى جفت عروقها منذ أمد بعيد, 
وطال بها الإنقطاع عن معين العلوم الكونية,
منذ سقوط قلاع الأمم الشرقية, 
واحدة تلو الأخرى,
حيث توالت الكبوات, 
دون العمل الجاد لنهضة البلاد والعباد.
وأهيب بالقارئ الكريم ألا يحشرني خطأ 
فى زمرة المنبهرين بالنظام الإشتراكي
الذى شاهد العالم انهياره,
أو النظام الليبرالي الذى بدأت مؤشرات نكسته 
تظهر جليا فى الأفق.
فإن عالم الشمال هو الآخر برمته لا يحسد على حاله,
بعدما هيمن على عالم الجنوب 
خلال خمسة قرون أو ما يزيد,
مستعملا كل وسائل الدمار الشامل 
والإبادة الجماعية 
حيث أقبر شعوبا وقبائل بأكملها,
لا لشئ إلا ليستوطن الأرض محلها 
ويستنزف الثروات بدون رادع.
ويبقى الإختلاف فى السوء من الشمال الى الجنوب, 
اختلاف تنوع,
لا اختلاف تضاد, 
مما يعنى أن الأزمة هى أزمة النظام العالمي
فى جوهره 
ولأن عوامل صموده أصبحت متعذرة 
فبات يعانى من الإحتضار المؤدى حتما الى الزوال .
عود الى بدء.
فلنتابع سلسلة سوء استعمال الهاتف الجوال.
هناك كذلك مشاهد سيئة أخرى 
مثل راكب الدراجة الهوائية أو النارية,
الذى يشد زمام الدراجة بيد, عادة اليمنى,
وباليد اليسرى يقبض على هاتفه الجوال, واضعا إياه على أذنه,
يتكلم مع مخاطبه طيلة مروره عبر الشوارع والأزقة,
لا يتوقف عند الضوء الأحمر, ولا يكثرت بقانون السير,
وويل لمن أراد أن يحتج على تصرفه المشين هذا.
وكم مرة يحصل ما يضره أو يضر بغيره إثر حادث سير
ناتج عن سوء تصرفه خلال تنقله المتهور على بساط الفوضى.
ثم إنك تلحظ أن العدوى انتقلت كذلك إلى سائق السيارة,
وسائق الشاحنة, 
وهنا يختلط الحابل بالنابل,
وتقع الكوارث والمآسي,
لأن حركة المرورلا تتحكم فيها إلا الفوضى العارمة.
وما عليك إلا أن تزور المستشفيات العمومية, 
والمصحات الخصوصية,
ومحفظات الجثث, 
لترى بأم عينيك هول المصائب 
التى تحصدها حركة المرور الطائشة,
والتى يزيدها تفاقما سوء استعمال الهاتف الجوال.
أضف إلى هذه المشاهد, 
استعمال الهاتف الجوال فى بعض الأماكن,
مثل المستشفى, 
وعيادة الطبيب, 
والمسجد, 
وبعض المصالح العمومية,
التى يستحسن أن يعطل فيها الهاتف 
احتراما لراحة الآخرين, 
وبغية أداء الخدمات الإجتماعية
الأداء السليم بما ينفع الناس.
بل تسربت عدوى العاتف الجوال 
داخل المدارس, 
وداخل حجرات الدرس,
مما يعيق العملية التعليمية من إنجازها النافع الناجع.
وإن دلت هذه الظاهرة على شئ, 
فإنها تدل على أن مكونات المجتمع فى معظمها
لا تقيم وزنا للواجبات الملقاة على عاتقها,
لأنها بكل بساطة لم تتلق التربية الأخلاقية الضرورية 
والتنمية الإجتماعية اللازمة
لبناء مجتمع منجز 
يعمل على توطيد روح الموطنة التى تبنى ولا تهدم.
وهذا التصور للإنسان الصالح فى المجتمع 
الصالح لبناء الغد الأفضل
يحتاج إلى إرادة صلبة لا تلين 
وقدرة جبارة لاتنكسر.
وكما قال الماوردي:
" أس الأخلاق العقل, وثمرتها العدل"
إن أدوات التكنولوجيا الحديثة ليست حلالا أو حراما فى ذاتها,
ولا حسنة أو سيئة فى ذاتها كذلك,
ولا طيبة أو خبيثة فى ذاتها أيضا.
الذى يجعلها مقبولة أو مرفوضة, 
هى الدوافع التى تحفزنا على اقتنائها,
والأهداف التى نتوخى تحقيقها باقنتاء واستعمال هذه الأدوات.
والحديث الشريف المتواثر التالي:
" لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع,
عن بدنه فيما أبلاه,
وعن عمره فيما أفناه,
وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه,
وعن علمه ماذا عمل به"
يمكن الإستشهاد به 
عند اقتناء الأدوات التكنولوجيا الحديثة واستعمالها,
ومن بينها الهاتف الجوال, 
حيث يجب أن يشترى بالمال الحلال,
ويجب أن يستعمل فيما يرضى الله.
وهنا تبرز أهمية التربية الدينية 
لتهذيب الأخلاق 
وضبط السلوك,
والتعامل مع الحياة بعقل رشيد.
حامد البشير المكي
 ماي 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire