عندما يصبح الواقع خيالا...!؟
هذا ما جادت به ذاكرة
الطفل
الذى ما زال يختبئ وراء قضبان صدري
يحركها من وقت لآخر صائحا:
"أعطني حريتي ... أطلق يدي
الذى ما زال يختبئ وراء قضبان صدري
يحركها من وقت لآخر صائحا:
"أعطني حريتي ... أطلق يدي
اتركني أنطلق إلى العالم الخارجي"
إنه الوجدان الذى يفصح وليس العقل الذى يميز
وأنا أشفق أيما إشفاق من الإنسان
إنه الوجدان الذى يفصح وليس العقل الذى يميز
وأنا أشفق أيما إشفاق من الإنسان
الذى فقد ذاكرة الطفولة
أو اغتالها لدافع من الدوافع.
فمن فقد ذاكرة الصبا فقد هويته
فمن فقد ذاكرة الصبا فقد هويته
وأصبح معلقا بين السماء
والأرض
كالريشة فى مهب الرياح لا تدرى أين تحط الرحال.
كالريشة فى مهب الرياح لا تدرى أين تحط الرحال.
000
منذ وقت مبكر جدا من
طفولتي الأولى,
وفى البيت الذى رأيت فيه
النور,
كنت أسبح بخيالي فى ما
يحيط بي من مفردات الوجود,
أطرح على نفسي أسئلة عدة
تتعلق بنفسي أولا:
" من أنا؟"
وبأهلي ثانيا:
" ماذا تعنى
كلمة أمي؟...وأبي؟"
وماذا تعني كلمات مثل:
" خالتي,
وعمتي, وأختي, وجدتي, ,....؟"
وبالجوار ثالثا:
" من أين أتت
جارتنا فلانة, وجارنا فلان,
وابن جارنا علان وبنته علانة, و...؟".
ويتوسع فضائي الفضولي
أفقيا إلى الأوسع فالأوسع,
إلى الكتاب الذى كنت
أتعلم فيه مبادئ القراءة والكتابة
على اللوح الخشبي,
أنا وأقراني من أبناء
الحي,
ونحن جلوس على الحصير
أمام المعلم السيد ابراهيم رحمه الله.
كما كنت أسبح بخيالي,
ولا أقول بفكري,
لأن وقتها لم تتشكل لدي
بعد القدرة على التفكير المنهجي
الذى يحتاج إلى أدوات
معرفية وعلمية وثقافية
تساعد العقل على التحرر
من الذاتية
وكل ما تحمله معها من
خرافات وأساطير
وتمثلات سطحية وتصورات خاطئة.
فالأداة الوحيدة التى
كنت أتوفر عليها
وأستعملها إلى أبعد حد ممكن
هو خيالي المفرط الذى
كان يعطيني أجوبة جاهزة
لكل الأسئلة التى كانت
تلامس خاطري
خارج المكان والزمان.
فمثلا كان قط يزورنا بين
الفينة والأخرى,
كان يفد علينا من فوق
سطح بيتنا,
فينزل من الطابق العلوي
إلى الطابق الأرضي
عبر المدرج الذى يربط بينهما,
وكان يذهب مباشرة إلى
المطبخ باحثا عن طعام ما
يتناول منه ليهدئ من لسعة جوعته.
كان لا يكثرت بوجودنا فى
البيت,
كنت أخاله كامل العضوية
فى بيتنا,
له نفس الحقوق إلا أن
واجباته كانت صفرا لا غير.
فكان إذا ارتكب محظورا
ما,
لا يقبل أى توبيخ ولا
يخضع لأى عقاب.
كان هذا الأمر يثير
انتباهي,
فكنت أتصور أن القط هو
صاحب الدار الأصلي,
وأن إحدى الجنيات مسخته
قطا
لأنه أثار غضبها وسخطها لسبب من الأسباب,
ربما أنه وعدها بالزواج
وخلف وعده,
وتزوج بإنسية أكثر منها
حسنا وجمالا وفتنة وبهاء,
الشئ الذى فجر غيرتها.
كانت تدور فى مخيلتي مثل
هذه الأوهام,
وكنت أصدقها لا لشئ إلا
لأجد أجوبة
للأسئلة التى لاتنتهى,
بل تتوالد مع تصوراتي
للوجود
الذى يحيط بي ويعمق حيرتي إلى ما لا نهاية له.
وكنت كذلك أضفي تصورات
أخرى على الطيور
التى كانت تزور بيتنا
منذ انبثاق الفجر حتى مغيب الشمس,
كانت هى الأخرى تنزل إلى
الفناء
الذى يتوسط الدار,
تبحث عن بعض فتات الخبز
اليابس
المتساقط على الأرض,
فتصطاده بمناقيرها
وتبلعه بسهولة
دون تبليله بريق ولا مضغه بأسنان.
فكنت أتعجب لمهارتها فى
بلع الفتات,
أو فى بعض الأحيان بلعها
حبات القمح
التى تبقى متناثرة هنا
وهناك على الأرض,
حين تقوم أمي وخالتي
بتنقيته من الزوائد
مثل الحصى التى قد تفسد الطحن.
كم مرة حاولت تقليد
الطيور فى بلعها حبات القمح,
وكنت أجد صعوبة فى ذلك,
بل كنت أوشك على
الإختناق
عند بلعها وأقول فى نفسي:
" ليبتني كنت
طائرا أستطيع
أن أبلع حبات القمح بسهولة!
ليتني كنت كروانا أغرد
وأطير بجناحي,
وأشرف على السطوح لأكتشف
ما وراءها من عوالم
لا أعرف عنها شيئا مطلقا,
وأحلق فى الأجواء وأتجول
فى أرجاء المدينة
التى أجهل أبعادها وأمدادها".
وكم مرة كنت أستحضر ما
كان يحكيه أبى
عن هذه المدينة التى ولدت فيها,
عن أسرارها وخباياها,
لقد اعتاد أبي عندما
يعود من المسجد بعد صلاة العشاء,
وبعد تناول طعام العشاء,
أن يقص علي ما رآه من
عجائب وما عاشه من غرائب,
عند تجواله بين أزقة
المدينة ودروبها.
وكان أبي يمتاز ببراعة
السرد
بأسلوب لم أعهده عند غيره من بعد,
سيما أنه كان يأخذ بعين
الإعتبار
أنه يتحدث إلى طفل صغير,
وكان يصبو لزرع الإثارة
والإستغراب فى نفسي,
وكان يعمل على جذب
انتباهي
إلى متابعة حديثه بكامل التركيز,
فكان يعمل على أن ألصق
بصري بعينيه
لا أميل عنهما يمينا ولا شمالا,
ليتيقن أني أرتوي من
أحاديثه بكامل قواي
رغم حداثة سني وطراوة وعيي.
ولم يكن أبي هو الوحيد
الذى كان يقص علي
من أخبار المدينة الممتعة والمحيرة فى آن واحد.
كانت خالتي هى الأخرى
تحكى لي قصصا
لكن عن عوالم العفاريت والأغوال.
كانت تحكى لي شتى
الأساطير التى كانت تغذى مخيلتي
بكائنات عجيبة متعددة
الأشكال والألوان,
منها من له عدة رؤوس,
ومنها من له عدة أرجل,
ومنها من يستطيع الصعود
إلى السماء,
ويقف مدة طويلة دون أن
يرتطم بالأرض.
ومن تلك الكائنات كذلك
كان من يخترق الجدران
ليتنقل دونما صعوبة
من غرفة إلى أخرى بسرعة
فائقة تفوق ارتداد الطرف.
وعلى عكس ما كانت تقصه
علي خالتي,
كانت عمتي تحكى لى عن أهلنا فى البادية,
عن أجيال بعضها عاشت
وبادت,
والبعض الآخر ما زال
ينتظر,
يعيش على رجع السماء وصدع الأرض,
رجال يتنقلون, صباح
مساء, بين الحقول وسنابلها,
وبين الأشجار وثمارها,
وبين المسارح وماشيتها.
ونساء ينتقلن من الرحى
إلى الفرن,
ومن المطبخ إلى المغسل,
ومن المغزل إلى المنسج.
كانت عمتي تحكى عن
قريتها بصوت مفعم بالحنين,
يشعرك أنها كانت ولا شك
تحن
إلى تلك الحياة القروية التى تركتها,
ونزحت عنها مع زوجها إلى
المدينة
التى لا يعرف أهلها طعم الراحة والطمأنينة.
وربما يتساءل البعض هل
كانت أمي تحكى لي
كما كان يفعل أبي وخالتي وعمتي.
كانت أمي مشغولة كثيرا
بأختي
التى كانت فى مرحلة الرضاعة.
وبما أن السمر كان ليلا
بعد صلاة العشاء,
فكانت أمي تكتفى
بالإستماع لحكايات الآخرين.
كان فى بيتنا بئر يستعمل
ماؤه لغسل الأوانى
التى كانت قليلة العدد,
نظرا للحالة المتواضعة
جدا
التى كانت تعيشها أسرتي,
كما كان ماء البئر
يستعمل لغسل الملابس والأغطية,
وكان كذلك يستعمل لتنظيف
أرض البهو
والغرف والمدرج والمطبخ,
تلك الأرض التى كانت
مبلطة يالطين الممزوج بالجير.
كنت لا أستطيع أن أقترب
من هذا البئر
لأن خالتي كانت تحذرني من الإقتراب منه.
كانت تقول لي أن عفريتا
يسكن فى جوف البئر
يسمى "شيخ البئر",
وأنني إذا حاولت
الإقتراب من البئر,
فسيخطفني هذا العفريت
ويعطيني لأبنائه الصغار الجوعى,
فيقطعونني إربا إربا,
ويفترسونني.
عرفت طبعا فيما بعد أن
التخويف كان بدافع أمني
لكي لا يدفعني الفضول, فأسقط فى البئر.
كم مرة كنت أصعد إلى سطح
الدار, فأستلقى على ظهري,
لأشاهد السحاب وهو يمر
ببطء, عبر السماء الزرقاء.
كان يتداخل بعضه فى بعض
ويشكل صورا
كان خيالي يجعل منها
كائنات لا وجود لها على أرض الواقع.
كنت أظنها تولد داخل
مدينتي,
ثم تصعد إلى السماء لتبنى مدينة لها فى الأجواء.
إنها كائنات لا تهدأ على
حال, تتغير أحجامها وأشكالها,
تتركب ثم سرعان ما
تتفكك, ثم تتركب من جديد لتتفكك بعدها.
وكلما غاب بعضها عن
ناظري, مر بعض آخر فوق بيتنا.
وكم مرة يتخيل إلي أن
إحدى تلك الكائنات
تبتسم لي وتهتف بي:
" يومك سعيد
يا صغيرناَ,
هيا اصعد إلى السماء والحق بنا, إن الفضاء ممتع جدا"
كنت أشعر أنها كائنات
صديقة, لا تهددني بأي مكروه,
وكنت أرتاح إليها وأجد
فيها الأنيس على سطح البيت.
كانت الطيور التى تحط
على السطح تزعجني
وتقطع علي حديثي مع تلك الكائنات.
وأنا ما زلت فى طفولتي
الأولى,
كنت أظن أن الجدران كانت تنبت كما تنبت الأشجار.
وكنت أظن أن خالتي عندما
كانت تنظف الجدران بالماء,
أنها كانت تسقيها لتنمو وتكبر.
الأمر الذى كان يحيرني
هو أنني لم أر قط
لا ثمارا ولا أوراقا لهذه الجدران.
ذات مرة سألت أمي عن هذا
اللغز.
فأجابتني:
" أيها
الأبله, أو تظن أن الجدران تنبت كالأشجار؟
إنها مادة جامدة ميتة لا
تتغير"
لم أفهم وقتها ما كانت
تقصده أمي,
فأصررت على أن الجدران تنبت.
000
عندما يصبح الواقع خيالا
لدى الطفل,
نعتبر أن الأمر يتعلق بحداثة سنه,
وأنه مع الزمن, سينمو
وجدانه وعقله
بفعل التنشئة والتربية والتجربة الذاتية,
فيكون تصوره للواقع أقرب
إلى الحقيقة.
أما إذا اختلط الواقع
بالخيال, عند البالغ, فهذه مصيبة,
أو على الأقل نستنتج أنه
مصاب نفسيا أو مختل عقليا.
من الناس من يهرب من
الواقع
لينعم بمسرات وهمية من نسج الخيال.
يهرب من الواقع لأنه لا
يريد أو لا يستطيع
أن يتحمل المسؤولية.
يهرب من الواقع لأنه
اعتاد على العيش الرغيد
الذى كان يوفره له البيت والمجتمع.
يهرب من الواقع لأنه
منعدم الضمير ميت القلب,
يلقى بواجباته على كاهل
الآخرين يضيفونها إلى واجباتهم.
هذا المخلوق انسلخ من
انسانيته وأصبح كلا على المجتمع الذى يعيش فيه.
فهو جرثومة تنخر جسم
المجتمع وتفسده وتعرقل مسيرته نحو الأفضل.
فلا يجوز أن نشبهه
بالطفل
الذى يجعل من واقعه متخيلات
تدخل عليه الغبطة والسرور.
حامد البشير المكي
ابريل 2011
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire