الإبداع كما أتصوره الجزء الأول
الإنسان فى هذه الحياة
الدنيا
إما أن يتقدم وإما أن يتأخر,
أما أن يبقى ساكنا لا
يتحرك,
فهذا مستحيل من حيث منطق الحياة أنها حياة,
يعنى أنها حركة ذائبة,
صعودا أوهبوطا,
قوة أو ضعفا,
وجودا أو زوالا.
فالثبات للواحد القهار
الذى له الخلق والأمر.
إن الإنسان طموح بطبعه
إلى العيش الكريم
والحياة الفاضلة,
ولا يكبح طموحه هذا
إلا عوائق
طبيعية أو اجتماعية أو نفسية.
فمن بين العوائق
الطبيعية :
الزلازل والفيضانات والإنفجارات البركانية,
والحرائق الغابوية, وغيرها.
ورغم هول هذه العوائق,
فإن الإنسان استطاع أن يقلص من أخطارها,
بل ويستفيد من حدوثها.
أما العوائق
الإجتماعية فعلى رأسها الإستعباد والإستبداد,
وقوى القهر والطغيان.
فهذه الآفات تدسي
الإنسان إلى الدرك الأسفل من الوجود,
وتحيله كائنا أحط من
الحشرات الضعيفة,
إذ أنها تنزع منه صفته
البشرية,
تسلب منه وعيه وجدانه وإرادته وكرامته
وقامته,
فيصبح أداة طيعة بين
يد الطاغية المستبد,
يسخره كيف شاء متى شاء.
ولهذا السبب شرع الله
جل جلاله الصراع بين الحق والباطل,
لأنه سبحانه وتعالى
حرم الظلم على نفسه وأمر عباده ألا يتظالموا.
والجهاد فى سبيل الله
يهدف أساسا إلى كسر شوكة الطغيان.
إن آثار الإستبداد
تتجلى فيما يصيب النفس من هواجس
تقذف فى قلب الإنسان
المظلوم, المقهور,
المكسورالجناح والمهدور الكرامة
تقذف فيه الخوف من
العقاب الذى قد ينهال عليه,
وما ذنبه إلا أنه لا
يعرف أن ينحنى إلى غير الله.
و"من أراد العزة
عند غير الله أذله الله"
كما جاء على لسان
الفاروق عمر بن الخطاب
رضى الله عنه وأرضاه.
وأخيرا العوائق
النفسية هى تلك الأمراض
التى تصيب الإنسان خلال حياته,
إثر سوء تربية, إفراطا
أو تفريطا,
فينحرف عن الجادة,
ويصبح عالة على المجتمع أو عدوا له.
من الكرامة أن يكون
الإنسان ناجحا فى حياته,
وإذا ارتكب خطأ ما
أوفشل فى مشروع ما
أوتأخر مؤقتا فى مسيرته نحو الأفضل,
فعليه أن يبحث عن
أسباب سقوطه فى الحفرة التى هو فى قعرها,
أوتأخره عن الركب الذى
فاته بأشواط قد يصعب عليه الإلتحاق به,
أوتعثره فى قراراته
التى يجب عليه تصويبها وتسديدها.
وأن يبحث عما يجب فعله
لينهض من كبوته,
وينطلق نحو الوجهة
الصحيحة.
لا يليق بالإنسان الحر
الكريم أن يترك الميدان
لأول صدمة,
وحتى لإن توالت
الصدمات,
ف"الضربة التى لا
تقصم الظهر تقويه",
كما روى عن الشهيد عمر
المختار رحمه الله.
يقول الله سبحانه
وتعالى فى آخرآية من سورة آل عمران:
" يا أيها
الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا
واتقوا الله لعلكم تفلحون"
فالفلاح مرهون بالصبر
والمصابرة والمرابطة والتقوى.
إن التقدم يحتاج إلى
إنجاز الخطوة الأولى على درب الحياة.
وهذا يذكرني بالمقولة
الصينية:
" أن طريق
الألف ميل تبدأ بخطوة"
ولو صغيرة غاية فى
الصغر,
إلا أنه ينبغى أن تكون جادة وهادفة,
تحركها الإرادة الصلبة
والعزيمة القاهرة.
ثم تتبعها خطوة
ثانيةأحسن و أنفع,
ثم ثالثة أجدى وأروع,
ورابعة وخامسة,
وهكذا إلى أن يتحقق
الإتقان فالإبداع...
وقد يرقى الإبداع فيتفجر من رحمه (إبداع الإبداع).
إن الإنجاز الذى ينتج
عن التقليد لا يصنع تقدما, ولا رقيا.
فالتقليد فى أحسن
مظاهره يسعى إلى الحفاظ
على ما أبدعه السلف وأنجزه.
وهو ما اسطلح عليه
بالصناعات التقليدية.
نقوم بترميم الآثار
وفق أسس وأصول تلك الصناعات
التى ترك لنا السلف,
لا نضيف إليها ولا
نحذف منها,
وإلا وجدنا أنفسنا خائنين للميثاق,
مضيعين للأمانة,
مزورين للتاريخ.
لا يجوز فى اعتقادى أن
نتجرأ على الإرث الحضاري التقليدي,
بدعوى التجديد,
نثخنه جراحا قاتلة
مدعين أننا نقوم بعمليات تجميلية.
الإبداع له مناهجه
وضوابطه,
إذا ما انحرف عن دوائرها,
أصبح عبثا لا غير,
وضحكا على الأذقان.
وكذلك الإنجاز الذى
يرتكز على عملية التجميع,
قد يبدو لأول وهلة أنه
إبداع.
ولكن إذا أخضعنا العمل
التجميعي إلى التحليل والنقد,
سيتضح أنه فاقد لأي
ملمح من ملامح الإبداع.
فهو مجرد توليف بين
مفردات حضارية موجودة,
قد تحتاج عملية
التوليف إلى إرساء مفاصل
تمنع المفردات من التفكك, بعضها عن البعض.
والمفاصل هذه لا تعتبر
إبداعا إنما جزء من عملية التوليف.
إن التجميع عملية
متطورة بالنسبة لعملية التقليد,
إلا أنها لا ترقى إلى
مستوى الإبداع الذى نصبو إليه.
فهى فى أحسن الأحوال
تعطينا توليفات نافعة وجميلة
يستفيد منها الناس,
لكنها لا ترقى ولن
ترقى أبدا إلى مستوى الإبداع.
وكذلك عملية التركيب,
ونعنى بها أن نقوم بصهر مفردات حضارية,
حيث تفقد تلك المفردات
وجودها
ليحل محلها كائن حضاري جديد له مواصفاته الخاصة به,
لا علاقة لها بمواصفات
المفردات التى أفرغت فى ذاته.
إننا نحصل فى هذه
الحالة على عناصر حضارية
لم تكن موجودة من قبل.
فعملية التركيب هى
أرقى من التقليد أوالتجميع,
لأنها تستلزم بذل
مجهود أكبر
على مستوى التفكير والتصميم والإنجاز.
ورغم ذلك لا تسمى
إبداعا,
وإذا نعتت بهذا فعلى سبيل المجاز لا غير.
إن عمليات التقليد
والتجميع والتركيب
ضرورية لإدارة عجلة الحياة
التى صنعها الإنسان
منذ أن استقر حضاريا
على وجه البسيطة,
صنعها بمواهبه وإعمال
عقله
ليجعل من محيطه فضاء ملائما لكرامته.
وهى مسيرة لا تتوقف
إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها:
" يا أيها
الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه"
إننا إذا أردنا أن
نرفع من قيمة هذه الحياة,
وأن نساهم فى التغيير
الذى يضفى عليها بهاء وسناء,
يسعد به الإنسان, فردا
وجماعة,
فلا بد من عملية الإبداع.
ولكى يبدع الإنسان فى
مجتمعه,
لا بد من توفير المناخ المناسب
الذى يرتكز على أربعة
أعمدة على الأقل:
الحرية والكرامة,
والأمن والعدالة.
ونقصد بإبداع الإبداع
ذلك التألق الذى لا ينتهى ولا ينقطع
إثر حركية الإبداع
المتواصلة والمستمرة,
حيث أن إبداع الإبداع
ينبع من رحم الإبداع.
ولا يتأتى هذا إلا
عندما يصبح المجتمع مبدعا,
جيلا بعد جيل,
أجيال تخرج من رحم
مبدعة,
وترضع من ثدى مبدع,
وتترعرع تحت عين مبدعة.
هل هذا ضرب من
خيال؟...كلا!
وهل تحقيقه محال؟...
كلا!
إذن ماذا ننتظر؟
هل ننتظر أن تنزل
الملائكة من السماء
لتحقق لنا ما نعشق؟
أو أن تخرج العفاريت
من باطن الأرض
لتصنع لنا ما نريد؟
أو كما قال
بعضنا:
"أن الله وهبنا النفط والغرب لنحقق بهما كل أحلامنا"!
كفانا عبثا ولهوا
وسباتا ومواتا...
حامد البشير المكي
يونيه 2011
الصورة
من الشابكة
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire