على هامش الإصلاح والثورة
لا يتعلق الموضوع
بالمجتمعات الغربية فحسب,
سواء الأوروبية
بشقيها الغربي والشرقي من جهة,
أو من جهة أخرى,
الأميركية بشقيها كذلك الشمالي والجنوبي,
ولكن يشمل كذلك
المجتمعات الشرقية,
أكانت تنتمى إلى
الشرق الأدنى
أم الشرق الأوسط
أم الشرق الأقصى,
حسب التقسيم الذى
اصطلح عليه الغرب نفسه,
إذ ينظر إلى القارة
الأوروبية أنها مركز العالم,
وأن باقى المعمور
هى أطراف باتجاه الشرق,
كما يعتقد أن جنوب
المتوسط حزام إفريقي أخضر,
تحده صحراء قاحلة وأدغال كثيفة.
أما فى جهة الغرب, فهناك
بحر الظلمات,
لا يدخله إلا مغامر يبحث
عن الهلاك.
والغريب فى نفسية الغرب
أنه,
بعد سقوط غرناطة المسلمة,
جهز حمالاته باتجاه
القارة الأميركية,
مدعيا أنه هو الذى
اكتشفها,
وأطلق عليها اسم العالم
الجديد,
فى مقابل العالم
القديم الذى تنص عليه توراته,
إذ حسب زعم الكنيسة
أن الرب,
بعدما انتهى من خلق
العالم القديم,
شرع فى خلق عالم
جديد,
ومن هذا المنظور
يدعى الغرب,
أن العالم الجديد
هو هبة ربانية لأهل التوراة:
أرضه وما تحت الثرى
وما فوقه من ثروات,
بما فيها من كائنات
تشبه الآدميين,
وهى فى الحقيقة,
دائما حسب زعم الغرب,
حيوانات خلقت
لتخدمه ويستأنس بها.
هذه الحيوانات هى التى
ستعرف فيما بعد بالهنود الحمر,
ثم بعد ذلك بقرون بالسكان
الأصليين .
وحتى لا نطيل فى هذا
الإتجاه,
لأن الموضوع يهتم
أساسا بالإصلاح والثورة,
فإن المجتمعات
الغربية,
التى دخلت إلى التاريخ مع نشأة اليونان القديمة,
ثم روما
الإستعمارية, التى بنت أمبراطوريتها بالحديد والنار,
على كاهل شعوب تحيط
بها من الجهات الأربع,
أبادت بعضها
بالكامل,
واستعبدت البعض
الآخر شر استعباد,
إلى أن شاء الله أن
تنكسر شوكتها على يد الفتح الإسلامي,
الذى حرر الشعوب من ربقة
الذل والإستعباد.
إن الشعوب الغربية, التى
تأسست كياناتها الحديثة فيما بعد,
حسمت أمرها
بالتدريج عبر الزمن.
حيث ظهرت حركة
الإصلاح فى المجال الديني,
وبرزت حركة النهضة
فى مجال العلوم والصناعات والفنون والآداب.
وواكب هاتين
الحركتين مخاض عسيرعلى مستوى الفلسفة والفكر.
ثم مع بداية القرن
الثامن عشر الميلادي,
جاءت حركة الأنوار
لتجدد التصور الفلسفي,
للغيب
والوجود والإنسان والحياة.
وغيرت الوجهة نحو
الفكر المادي
الذى سيصبح مهيمنا
على الوجدان والعقل والضمير.
الأمر الذى سيرغم
الفكر المسيحي الكنسي على التقهقر والإنحسار.
ثم ما فتئ القرن
الثامن عشر أن ينقضى
حتى انفجرت الثورة
الفرنسية التى يطلق عليها لقب أم الثورات.
والتى عملت على
تقويض الأنظمة الملكية والإمبراطورية
التى تستمد وجودها
مما يسمى بالحق الإلهي,
حيث أن الملك أو
الأمبراطور كان يحكم بموجب صك من السماء,
فلا يحاسبه أحد من
أهل الأرض البثة.
فمثلا فى عهد الملك
لويس الرابع عشر بفرنسا,
الملك الشمس,
كان يشاع أن ما
يتفوه به الملك يعتبر تشريعا
يلزم الرعية لتمتثل
له وتنصاع دون قيد أو شرط.
فالثورة الفرنسية
اكتسحت كل القارة الأوروبية أو كادت,
من الغرب إلى الشرق,
ومن الجنوب إلى الشمال,
كما تنتشر النار فى
الهشيم.
فأسقطت عروشا وهزت
أخرى,
وزرعت فى وجدان
الشعوب الأروبية,
الشوق إلى الحرية
والرغبة فى الإنعتاق.
لكن الطبقة البورجوازية
التى كانت بمثابة اليد الخفية
التى تحرك دواليب
الدوائر الثائرة,
بفضل الثروة الضخمة
التى كدستها عبر العقود المتتالية
منذ عصر النهضة أو
قبلها بقليل,
استعانت بالجماهير
لإسقاط العروش,
واستغلت نفس
الجماهير لمصالحها الفئوية,
فأقامت نظاما
جديدا, ظاهره خير وباطنه شر,
نظاما عرف بالنظام
الديمقراطي,
فى بعض الحالات جمهورية
صرفة كما فى فرنسا,
وفى أخرى, ملكية برلمانية
كما فى ابريطانيا,
يرفع شعار الحكم
"من الشعب وبالشعب وإلى الشعب",
وهو مجرد مغالطة
مكنت الطبقة البورجوازية,
وخاصة العليا منها,
من الهيمنة على
مراكز القرار, إلى يوم الناس هذا.
وكما قال ويستن
تشورشيل:
" الديمقراطية نظام
سيئ, ولكنه الأقل سوء مقارنة بالأنظمة الأخرى"
ومنذ بزوغ العهد
الصناعي مع مطلع القرن التاسع عشر الميلادي
على وجه التقريب,
أصبحت أسواق العمل
فى حاجة ماسة إلى اليد العاملة,
بدء باليد الذكورية
ذات الجذور الحضرية
التى اتضح أنها لا
تكفى لسد باب الطلب,
فتوجه الطلب إلى
العالم القروي,
ليحفز الكهول
والشباب على النزوح من قراهم إلى المدن,
بل وحتى الأطفال
بدأوا يهاجرون فى آخر المطاف.
وكان أرباب العمل
والمعامل يعدون هؤلاء الفقراء الكادحين
بتحسين أوضاعهم
المعيشية, اقتصاديا واجتماعيا.
وسيتضح بعد عقود
قلائل أن الحاجة إلى اليد العاملة تزداد أكثر فأكثر,
الأمر الذى دفع
الطبقة البرجوازية الرأسمالية
أن تمكر مكرها على
تشجيع المرأة لمغادرة بيتها وأهلها
والإلتحاق بالمعامل
تطحنها دواليبها مقابل أجر بخس,
لايغني ولا يسمن من
فاقة.
فلهذه الأسباب وفى
هذه الأجواء انطلقت حملات منظمة,
تقرع الطبول فى كل جهة
وناد,
للنداء
بتحرير المرأة والمطالبة بمساواتها بالرجل,
كلمة حق أريد بها
باطل.
إن الأحداث
والتطورات التى عاشتها المجتمعات الغربية,
بعجرها وبجرها,
بحسنها وقبحها,
غيرت الغاية التى خلق من
أجلها الإنسان,
وأصبحت الوجهة هى الركوض
نحو الشهوات,
(إن هى إلا حياتنا وما
يهلكنا إلا الدهر).
فمن حيث العقيدة,
أصبحت الفلسفات المادية
تهيمن على العقل الغربي,
إذ يرى أن الوجود حدث إثر
انفجار هائل,
تكونت بسببه الأجرام,
وأن الحياة على وجه كوكب
الأرض صدفة,
وأن الإنسان نشأ طبقا
لنظرية النشوء والإرتقاء,
وأن بين الإنسان والقرد
نسبا.
وأن الحياة صراع لا
ينتهى, وأن البقاء للأقوى.
أما من الناحية
الأخلاقية,
فمنظومة الأخلاق الموروثة
هى مجرد عقد نفسية,
تعرقل المسار الرفيع
للحياة,
فكل السلوكيات مقبولة
اجتماعيا,
طبقا للعقد الإجتماعي
الذى يبرم ديمقراطيا بين المواطنين.
على إثر هذا أصاب
العلاقة بين الزوجين ارتجاج
برتبة تسعة على سلم ريشتر,
وتحرك إثر هذا
الإرتجاج, تسونامي رهيب,
جرف الأبناء وزحف
بهم إلى الهاوية.
فأصبحت الأم تجعل من
ابنها عشيقا,
وأصبح الأب يتخذ ابنته
خليلة,
وأصبحت الحرية الشخصية هى
المقدس الأقدس,
الذى تتفرع منه باقي
المقدسات الأخرى
التى لا طعم لها
ولا لون ولا رائحة.
لقد تغير مفهوم الإصلاح
فى وعى هذه المجتمعات الغربية,
وصار الإفساد يتبارى
ويتنافس مع الإصلاح,
وجها لوجه, عن واضحة
النهار, أمام الملآ,
تنصب لهما المنابر,
وتجهز
لهما جيوش جرارة من دعاة وأنصار.
وتعلق الأوسمة والنياشين
للمفسدين,
تماما كما فى بعض الأحيان
للمصلحين.
أما الثورات, فحدث ولا
حرج:
ثورة الياسمين, وأخرى
للبرتقال, ...
كما أصبح الحال فى أوروبا
الشرقية,
بعد انهيار الإتحاد
السوفياتي.
وكأن مصير الشعوب يعالج
بالحفلات والمهرجانات, ليس إلا!...
وماذا عن مجتمعاتنا
الشرقية,
كما يحلو للبعض أن
يسميها قدحا لا مدحا,
لأنه يغيب كل طيب
يرفع من قدرها,
ويبرز كل عوراتها,
وهى كثيرة طبعا,
لا نريد أن نخفيها,
لأنها أمراض
إجتماعية,
منها المزمن تغلغل
فى ذاتها منذ زمن بعيد,
ومنها العرضي الذى
لا يتعدى مداه بضعة عقود.
أطيب ما تملك هذه
الشعوب هى عقيدتها,
عقيدة التوحيد,
تلك العقيدة التى
أخرجت أجيالا من الأعلام العظام,
التى تأبى هاماتهم أن
تسجد لغير الله,
الواحد الأحد الفرد
الصمد,
تلك العقيدة التي
قامت بمسح الأرض,
فأيقضت شعوبا من
سباتها العميق,
فغرست فى قلوبها
روح الإيمان,
وأعطتها الوجهة السليمة
نحو الكعبة ورب الكعبة.
والذى يحز فى النفس, أن
هذه المجتمعات بدأت تتبع الغرب
حذو النعل بالنعل,
والقذة بالقذة.
وهى مازالت أمة القصعة,
مصابة بالوهن,
تظن أن الإصلاح فسحة,
وأن الثورة سياحة.
حامد البشير المكي
شتنبر 2011
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire