على هامش القراءة والكتابة
كلنا نعلم أن الكتابة جاءت
متأخرة
فى تاريخ البشرية.
كان الإنسان يتواصل شفويا مع
أهله وجيرانه ومحيطه الإجتماعي.
وكان الإتصال بين البلدات عن
طريق الرسالة الشفوية
التى ينقلها المرسول من
المرسل إلى المرسل إليه.
ثم جاء عهد الكتابة عندما
اكتشفت الحروف
التى كانت تنقش على الحجر,
وتجوف على ألواح الطين,
وترسم على البردى, وأوراق
الشجر وعظام الحيوانات.
ثم بعد قرون بل ربما آلاف
السنين, اكتشفت صناعة الورق
التى فتحت الباب ومهدت الطريق
لإنتشار الكتابة
التى تعد الركيزة الأساس
للمعرفة والثقافة.
واكتشاف الورق ينسبه الغرب
إلى الصين,
كما نسب كثيرا من الإكتشافات
والإختراعات للصينيين,
هذه الأمة العريقة التى منذ
أن دخلت التاريخ
لم تخرج منه إلى الآن,
بل لقد أصبحت تفرض وجودها على
الساحة الدولية,
أكثر فأكثر بفضل إصرارها على
التمكين والهيمنة,
وهى ماضية فى هذا الإتجاه لا
يمنعها مانع.
ومع ذلك نحن نصر على أن الأمة
الإسلامية
منذ نشأتها مع البعثة
النبوية,
وعبر الزمن, أعطت إلى البشرية
ما لم تعطه الصين,
وما لم يدعيه الغرب لنفسه
كعطاء.
ومن بين هذه الإكتشافات
والإختراعات,
صناعة الورق التى انطلقت من
مدينة سمرقند المسلمة.
إن العرب هم أول من استعمل
الحروف الأبجدية,
هذا الإكتشاف الذى انتشر شرقا
وغربا,
ليصبح الأداة المركزية
والأساسية للتواصل.
كما أن الكتابة ساهمت فى
إنشاء أمبراطوريات عملاقة
بسطت نفوذها عبر أقطار شاسعة.
وكذلك لعبت الكتابة دورا
كبيرا فى نشر العلوم وتعميقها,
وتحريرها من الأساطير
والخرافات.
إن الموضوع الذى نحن بصدده
لا
يسعى إلى المساهمة فى تاريخ الكتابة,
أوالبحث فى أصولها وجذورها,
وتطوراتها الآلية والتكنلوجية,
أوتحليل مجالاتها ومراميها.
الموضوع بكل بساطة يهدف إلى
إلقاء بعض الضوء
على العلاقة الجدلية بين الكاتب
والقارئ
فى المجال الثقافي بوجه عام
والمجال الفكري بوجه خاص.
لماذا يكتب الكاتب؟
لماذا يقرأ القارئ؟
وهل هناك خيط رابط بين الكاتب
والقارئ؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة
وغيرها,
لابد من استكمال هذه التوطئة.
هناك الكاتب المهني الذى
يحترف الكتابة ارتزاقا,
فالأداة التى يعمل بها هى
القلم,
والمعمل الذى ينجز فيه
نشاطه هو المكتب,
أو البيت أو أي مكان آخر
يمكنه من مزاولة نشاطه.
ولقد أدخلت التكنلوجيا
الحديثة أدوات أخرى
مثل الحاسوب وكل الأجهزة
المحيطة به والمكملة له.
كما أن ثورة الإتصال
والمعلومات قد غيرت من صيغ التواصل
بين الناس وأنشأت فضاءات
جديدة للمحادثة بالصورة
والصوت والكلمة الرقمية
المسطورة والمرموزة.
لقد أصبحت فعلا تعيش البشرية
فى قرية صغيرة,
بفعل سرعة الإتصال التى تهزم
الخيال والتصور.
ولأن الثورة المعلوماتية قد
أدخلت الإنسان فى عوالم افتراضية,
ولأن المعلومة أصبحت تسافر
عبر الأقمار الإصطناعية
لا يعرقل مسارها المكان أو
الزمان,
ولأن الأدوات التى تستعمل
لهذه الأغراض أصبحت متنوعة ومتطورة,
بل وتزداد دقة وفعالية على
مدار الساعة,
فإن الكاتب أصبح هو الآخر
متحررا من كل القيود مهما كثرت.
لقد أصبح فى إمكانه أن يكتب
أو يقرأ وهو فى حركة ذائبة
وتنقل مستمر دونما كلل ولا
ملل.
إن الكاتب المحترف يعمل عادة
على أساس تعاقد
مع شخص مادى أو معنوي,
طبقا لشروط تحدد مجال الكتابة
والأهداف المتوخاة من ورائها.
لنضرب مثلا الكاتب الصحافي
داخل مؤسسة صحافية.
فعمله الصحافي لا يخرج عن
المجال ولا يتجاوز حدوده.
وقد يكون الكاتب الصحافي
مستقلا,
وفى هذه الحال يبحث عمن ينشر
مقالاته بمقابل مادي أو بدونه.
ويمكن أن نعطى أمثلة أخرى فى
مجالات الفكر والآداب والعلوم,
تأليفها وطبعها ونشرها
وتوزيعها,
ومتابعة استهلاكها لمعرفة
مردوديتها المادية والمعنوية,
وأثرها الإيجابي أو السلبي
على جمهور القراء,
وعلى المحيط الإجتماعي الذى
يحيط بالقراء ويتأثر بهم.
وهناك الكاتب الحر فى تفكيره
يؤمن برسالة أفرزتها
الظروف الطبيعية والإجتماعية
والنفسية
التى عاشها وما زال يعيشها,
وكذلك المؤثرات الثقافية
والفكرية التى شكلت هويته.
فعادة ما يكون هذا الكاتب
المفكر الحر
يعزف خارج السرب
الثقافي الرسمى,
فهو يحمل فى عقله زادا ثقافيا
حركيا
يريد أن يساهم به فى
تغيير الأوضاع السائدة.
التى يراها متجاوزة, أصابتها
البداءة,
ويعمل على إصلاح الخلل
الذى أصابها
أو العمل على تغييرها
جذريا إن أمكن ذلك.
تبث عند علماء الأرض أنها
تتزلزل من حين لآخر,
وتنفجر فيها براكين من حين
لآخر,
وتتمخض أجواؤها على صواعق
وأمطار,
وتهتز بحارها أمواجا كالجبال,
وتفيض أنهارها على الضفاف
والربوات,
وتحترق أدغالها فى بعض الظروف,
فتقضى النيران على
الأخضر منها واليابس.
فبعد تتبعهم لهذه الظواهر
ورصدها وتحليلها واستكناه خباياها,
أدركوا أن لها فوائد
لا تحصى ولا تعد,
على توازنات الأرض
وضوابط الحياة
التى تسري فى عمقها وعلى
سطحها وفى أجوائها.
فكذلك الشعوب والأمم لا
يستقيم حالها لا بالجمود ولا بالجحود.
ولكن بحركية الإصلاح الذى لا
تتوقف,
وبالثورة الخلاقة التى تنبع
من رحمها.
أما الفوضى الخلاقة التى
يسلطها عليها أعداؤها,
فلن تتمخض إلا على الدمار
والزوال.
والثورة الخلاقة تحتاج إلى
الحكم الرشيد
الذى يستمد وجوده من
الشورى الحكيمة.
إن المجتمع الراشد هو المجتمع
الذى لا يعمل على طرد أبنائه,
بل يعمل على تربيتهم
وتنشئتهم,
وتكوينهم ليصبحوا قادرين على
الإنجاز والإبداع,
لهم كامل الإستعداد
للمساهمة فى بناء صرح الوطن.
ومن مواصفات المجتمع الراشد
المنجز, أنه مجتمع يكتب ويقرأ.
ويفهم ما يكتب ويراجع ما يكتب
لكى لا يكون حاطب ليل.
وأنه كذلك يقرأ ويفهم ما يقرأ
لكى لا يكون كالدابة التى لا تعرف ماذا تعلف.
ولا يمكن للمجتمع أن يكون
راشدا وجل أهله أموات
قتلتهم الأمية وأقبرهم الجهل.
تظنهم أحياء يمشون على
أرجل
ولكنهم لا يفقهون الوظيفة
التى خلقوا لأجلها,
ولورأيتهم يتألمون ويعانون,
لأن المصائب والكوارث
والمظالم تحتاج إلى فهم ووعى.
المجتمع الراشد المنجز يعمل
ليل نهار, لا يتكاسل ولا يتهاون,
همه الأكبر هو بناء الإنسان
الصالح المصلح.
فكيف الوصول إلى هذه الغاية
إذا لم نعلمه كيف يأخذ
بناصية القراءة والكتابة.
إقرأ لأسمع كيف تقرأ,
ولأحاورك فيما فهمت من النص
الذى قرأت
فأصنفك هل أنت من الأذكياء أم
من الأغبياء.
أكتب لأقرأ ما كتبت,
ولأحاورك فيما كتبت, لم
كتبته وكيف كتبته,
فأصنفك هل أنت من الصادقين أم
أنت من الكاذبين.
إننا نلتقي, خلال مسيرتنا
الثقافية, بأناس درسوا فى الجامعات,
وتخرجوا منها أطباء, وصيادلة,
وقضاة, ومحامين,
ومهندسين وغير ذلك من
التخصصات.
ولكن بعضهم لا يهتم بالجانب
الثقافي والفكري.
بل على العكس يراه مضيعة
لوقته النفيس لا غير,
فهو منفصل عما يجرى على هذا
الكوكب,
من كوارث وحروب وويلات ومظالم
ومحن وفتن.
بل تراه يتضجر من الخوض فى
هذه الأمور,
التى تقلق راحته, وتبلبل
مزاجه.
يقول لك أنه يكدح طول النهار
والليل لا يكفيه للراحة,
ويقول لك أنه يعمل طيلة
الأسبوع
ويوم العطلة الأسبوعية
لا يكفيه للإستراحة,
ويقول لك أيضا أنه يعانى من
عمله المضنى على مدار السنة,
فمن حقه أن يذوق طعم السياحة
خلال عطلة صيفية,
بل يقول لك ناصحا بأن العمر
لو تدرى قصير,
وأن لك الساعة التى أنت
فيها.
تراه يقضى يوميا ساعات أمام
التلفاز,
لأنه يتمتع بمباريات الكرة,
أي كرة كانت وكيفما كان لونها وحجمها,
كرة القدم, كرة السلة, كرة
اليد, كرة المضرب,
كرة الغولف واللائحة
تطول...
هذا بالإضافة إلى أشكال
وألوان
من الألعاب الرياضية الأخرى وغير الرياضية,
فصاحبنا يعرف عنها الكثير,
عن تاريخها وفنونها
وتنظيماتها.
وإذا سألته عن القضية
الفلسطينية مثلا,
يجيبك بكلام مذبذب سطحي
غاية فى التفاهة,
ثم يختم:" ما لنا
والفلسطينيين؟
هيا بنا نتفرج على عادل إمام
فى فيلم السفارة فى العمارة"
وإذا دخلت فى حوار مع هذا
النموذج من الجامعيين,
فإنك تلمس أن السطحية هى
السمة الغالبة عليه.
وإذا سألته عن مستقبل ابنه
كان الجواب جاهزا:
" ابنى له حرية الإختيار
عندما يحصل على الباكلوريا"
وعندما تقترب من الإبن, تجده
غارقا فى ماديات الحياة حتى النخاع.
كما قد تلتقى
بأساتذة جامعيين لهم كراسى ومدارج,
ولهم حشود كبيرة من الطلبة
والطالبات,
كلهم أو جلهم ممتازون فى
مجالهم المهني,
متميزون فى عطائهم الأكاديمى,
لكن لا يعيرون للثقافة والفكر
إلا النزر القليل من الوقت والجهد.
فهذا النموذج من الأساتذة
الجامعيين يقول لك:
" يا أخي بالله عليك متى
سأجد الوقت للثقافة والفكر,
وأنا أعطى كل وقتي وجهدي
للجامعة,
فمن المدرج إلى البحث العلمي,
ومن هذا إلى المشاركة فى
الملتقيات,
والمنتديات والمناظرات
والمؤتمرات.
فقل لي بربك متى تريدني أن
أنكب على ما يجرى
فى الساحة العربية أو
الغربية أو غيرها؟"
فإذا كان خريج الجامعة لا
يهتم بما يدور حوله من أحداث جسام,
تشيب لها الولدان.
وأخونا يلتمس لنفسه الأعذار.
أحداث تتعلق بأبحر من دماء
الأبرياء,
تسيل هنا وهناك, وأخونا لا
يأبه بها,
اللهم إلا إذا مر عليها مر
الكرام
خلال نشرة مقتضبة للأخبار.
أحداث تتعلق بالجوعى والمرضى
عددهم بعشرات الملايين,
قد يتحدث عنها صاحبنا
كما
يتحدث عن الجفاف الذى أصاب الأدغال.
فإذا كان هؤلاء كذلك,
فلماذا
نلوم الإنسان الأمي
الذى لم يسعفه الحظ لولوج
مدرسة
ولو يوما واحدا فى حياته؟
حامد البشير المكي
شتنبر 2011
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire